درج-
إسرائيل بقيادة نتانياهو وفريقه الصهيوني التوسع، باتت تتبنّى منظوراً استراتيجياً جديداً للأمن القومي، يقوم على منطق “الهيمنة المنفلتة لا الردع المحسوب”، بحسب محللين سياسيين. وهي تواصل الاستثمار في تداعيات 7 أكتوبر، كفرصة استراتيجية لإعادة تشكيل قواعد اللعبة في منطقة فقدت قوة الردع الإقليمي بعد تحطيم قدرات العراق وسوريا وتحييد مصر بمعاهدة سلام مكبّلة.
يرتفع منسوب القلق لدى صانعي القرار كلما دوّت صافرات الإنذار بعبور مسيّرات إيران وصواريخها البالستية أجواء الأردن انتقاماً من غارات إسرائيل المفاجئة منذ فجر الجمعة.
حالٌ تتناقض مع حالة ملايين السكان المندهشين، الذين يصعدون الى أسطح منازلهم لتوثيق ومضات أجسام ذهبية في سماء المملكة، قبل اعتراض غالبيتها من مقاتلات سلاح الجو الملكي وأنظمة الدفاع الجوي.
بسرعة البرق تحمّل مواد الفيديو والصور على منصات التواصل الاجتماعي – بتعليقات مشجّعة أحياناً أو ساخرة – غير مكترثين بدويّ صافرات الإنذار ودعوات السلطات لأخذ الحيطة والحذر.
تساور بعض راصدي “الشهب” العابرة مشاعر غبطة بأن إيران كسرت “احتكار الرد” بخطوة تأديبية لجيش إسرائيل المنخرط في حرب الإبادة والتجويع في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
في الذاكرة، زخّات صاروخية “سكود” أطلقها عراق صدام حسين صوب إسرائيل قبل 34 عاماً، رداً على غزو التحالف الدولي بقيادة أميركا في حرب الخليج الثانية. بعضها مر في سماء الأردن لضرب الأهداف.
الحرب “الوجوديّة”
بين ليلة وضحاها، وجدت عمان نفسها في مرمى نيران إسرائيل وإيران وسط خشية من توسع رقعة الصراع وفتح الباب أمام تدخل أميركا إلى جانب إسرائيل بوجه أصدقاء إيران: روسيا والصين والباكستان؛ وجميعها تنتمي الى نادي الدول النووية.
أي تدخل أميركي يغذّي توقعات بتحرك بقايا محور الممانعة، بمن فيها الفصائل الشيعية الموالية لإيران في العراق، للانتقام من خلال ضرب قواعد منتشرة في دول عربية عدة أو استهداف مصالح تجارية أميركية أو رعايا أميركيين مقيمين في المنطقة.
بعد امتصاص صدمة الحرب التي فرضها نتانياهو على إيران بصورة مفاجئة بينما كانت واشنطن تستعد للقاء جديد مع الإيرانيين في سلطنة عمان، كرّرت عمان رفضها السماح لأي جهة باستخدام أجوائها كما فعلت في المرتين السابقتين عندما تراشقت إيران مع إسرائيل. وشددت على أنها لن تكون ساحة حرب لأي صراع.
لكن إيران لم تلتزم بهذا التنبيه، ما أجبر الأردن على التحرك لصدّ الصواريخ لـ”صون سيادته” ودرء مخاطر زعزعة أمنه واستقراره وسط إقليم ملتهب، الأمر الذي أغضب مؤيدي محور الممانعة في المملكة.
مخاطر محلية
السيناريوهات الأصعب تشمل احتمال عبور خلايا محسوبة على إيران وحلفائها باتجاه إسرائيل من خلال حدود الأردن وسوريا ولبنان، ما قد يستدرج إسرائيل الى مزيد من التصعيد.
تخشى عمان أيضاً سقوط مسيّرات وصَواريخ باليستية على بنى تحتية ومنشآت حيوية مثل مستشفيات أو مصافي بترول أو محطات بنزين وتوليد كهرباء، بما يهدد حياة المواطنين.
ولغاية اليوم، لم يسقط ضحايا في المملكة نتيجة شظايا مسيرات وقعت قرب بعض المنازل في الشمال والجنوب وتسبّبت بخسائر مادية.
في المقابل، تسلك مقاتلات إسرائيل مسارات مغايرة لعبور صواريخ إيران بعيداً عن الأجواء الأردنية. فهي تنطلق من قواعدها وتعبر الأجواء السورية والعراقية صوب حدود إيران الغربية لإنزال حمولتها الثقيلة، بما في ذلك صواريخ جو جو وجو أرض والقنابل الموجّهة لتدمير منشآت عسكرية ونووية في طهران وغيرها من المواقع.
مسؤول أردني يقول في مقابلة معي – بشرط حجب هويته لحساسية الموقف – إن إسرائيل التزمت كالمرات السابقة بطلب عمان عدم استخدام طائراتها أجواء المملكة في طريقها الى إيران.
الموقف السياسي
أدان كل من الأردن ومصر ودول الخليج العربي وغيرها عدوان إسرائيل على إيران بأشدّ العبارات. وعبرّت عن قلقها إزاء استمرار التصعيد وتداعياته على المنطقة، بما في ذلك إشعال صراع أوسع يحمل عواقب وخيمة على السلم الإقليمي والدولي. وعدّت العدوان الإسرائيلي انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
الشارع العربي انقسم بحسب عمق التصدّع السياسي والطائفي، وتدرّج المواقف الشعبية والنخبوية والسياسية بين تصنيف الصديق والعدو.
لا ود بين إيران وغالبية الدول العربية المنضوية تحت جبهة ما يُسمى بالاعتدال العربي بحسب محللين. في الأردن ظهر حجم التباعد بين أجندة الدولتين وتعمق بعد وقوف المملكة إلى جانب العراق ضد إيران خلال حرب الخليج الأولى 1980-1988.
لطالما نظرت عمان إلى طهران، زعيمة محور الممانعة، على أنها معادية لسياساتها المرتبطة بعلاقات استراتيجية عسكرية سياسية مع الولايات المتحدة. تدعم هذا الرابط معاهدة سلام مع إسرائيل منذ 1994، رأت فيها عمان مقدمة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وتطبيع علاقات سائر الدول العربية مع إسرائيل.
تحت حكم اليمين المتصهين، تحولت إسرائيل الى مصدر قلق شعبي ورسمي للأردن بسبب ممارسات نتانياهو، والمستقبل سيكون مليئاً بالتحديات الوجودية.
جسور مَلكيّة
على وقع إقليم مشتعل، التقى الملك عبدالله الثاني سياسيين وإعلاميين يوم الأحد للحديث عن التحديات الماثلة على كل الجبهات، وجهود عمان للخروج من المرحلة بأقل الخسائر.
عبر الملك عن خشيته من أن الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل قد يشتت الانتباه عن القضية الفلسطينية وما تقوم به إسرائيل من فظائع وجرائم في قطاع غزة. وبدا قلقاً بشأن التصعيد الإسرائيلي في الضفة خلال الشهور الماضية وبناء مستوطنات جديدة على الأراضي المحتلّة.
الحوار الثنائي مجمّد منذ ما قبل بدء الحرب على غزة. سياسة الاعتدال التي يتبناها الأردن تتعارض مع توجهات نتانياهو العدوانية لإخضاع المنطقة لنفوذ إسرائيل بعد الانتهاء من إزاحة محور الممانعة.
أكد الملك متابعة الأردن الحثيثة للجهود الأوروبية – العربية لعقد مؤتمر دولي يعترف بالدولة الفلسطينية من باب ضرورة العودة إلى معادلات تسمح بإقامتها.
بعد بدء الحرب على ايران فجر الجمعة، أجلت الدول العربية المؤتمر الأممي برئاسة فرنسا والسعودية قبل أيام من انعقاده في نيويورك. وعملت كل من واشنطن وإسرائيل على إجهاضه قبل أن يبدأ.
ترامب توعد بعقاب دبلوماسي لحكومات العالم المشاركة في مؤتمر “حل الدولتين. وقال إن المؤتمر “غير مجد للجهود المبذولة لإنقاذ الأرواح وإنهاء الحرب في غزة وتحرير الرهائن”. من جهتها، هددت إسرائيل بأنها ستضم الضفة الغربية في حال اعترفت فرنسا بالدولة الفلسطينية.
كلفة الغطرسة
أجواء اللقاء حملت انطباعات بأن نتانياهو لن يستمر في منصبه أكثر من شهرين بسبب سياساته العدوانية وخوض حروب على جبهات عدة ومذابح غزة التي باتت مصدر قلق للداخل والخارج.
تأرجح شعبي
إسرائيل استثمرت بأحداث 7 أكتوبر 2023 لتطبيق سيناريو تهشيم نفوذ إيران، زعيمة محور الممانعة، ووكلائها في الإقليم: حزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في الضفة وغزة. والآن، تستهدف الحوثي في اليمن وتستخدم الحرب على إيران لتعطيل برنامجها النووي وكسر قوتها العسكرية. ولاحقاً ستطاول فصائل موالية لإيران في العراق.
بعدها، سيركز نتانياهو على حسم ملف القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، عبر ضمّ غالبية أراضي الضفة الغربية بعد إعادة احتلال معظم قطاع غزة والتوغل في المناطق السورية واللبنانية المحاذية لها. في السياق، سيحاول تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين، في مسعى الى نزع خطر القنبلة الديمغرافية الموقوتة.
بحسب سفير أميركا في إسرائيل، فإن واشنطن، راعي تل ابيب بلا حدود – لم تعد تدعم إقامة دولة فلسطينية في مهدها التاريخي، بل تقترح إقامتها في دولة إسلامية أخرى.
خلال اللقاء، كرر الملك مرة أخرى أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين عبر نهر الأردن ستعدّ بمثابة إعلان حرب، وأنه سيلجأ الى الجيش لصدها بغض النظر عن الكلفة. مصر تصرّ أيضاً على رفض تهجير أهل غزة إليها.
في المقابل، ساعدت فظائع إسرائيل في حرب الإبادة والتجويع، على التقارب الأردني – الخليجي. وقال بعض الحضور إنهم شعروا بالارتياح عندما قال الملك إن فظائع الحرب على غزة أعادت اللحمة العربية بعد سنوات من الشتات. العلاقات الأردنية – الخليجية قوية. وبخلاف توقعات سابقة، قال إن علاقته مع ولي العهد السعودي متينة ويمكن الاعتماد على الرياض لدعم الموقف الأردني.
السعودية، على سبيل المثال، تضع خطوطاً حمراء في ما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل، مشترطة قيام دولة فلسطينية.
التقدير الأردني أن الدول العربية التي وقعت الاتفاقيات الإبراهيمية، باتت تبتعد عن طروحات التقارب الاقتصادي مع إسرائيل بعد حرب الإبادة والتجويع، وقد توجّه اهتمامها الى أماكن أخرى مثل لبنان.
مستقبل إيران
في الحرب الحالية، دمّرت إسرائيل بنى تحتية ومنشآت نووية بعد اغتيالِها معظم الصف الأول من القادة العسكريين وعلماء البرنامج النووي.
وبذلك، ترجع عقارب ساعة إيران إلى الوراء، بعدما ساد الاعتقاد لدى إسرائيل وبعض الدول الخليجية أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من امتلاك قنبلة نووية.
الآن، تبقى إسرائيل القوة النووية الوحيدة القادرة على تطويع الشرق الأوسط الجديد بمنطق القوة والإكراه، وفي ظهرها ترامب وإدارته التي يسيطر فيها اليمين المتصهين على غالبية ملفات المنطقة.
فواتير ضخمة
تدريجياً، تتكشف ملامح الفاتورة السياسية والأمنية لهدا التصعيد غير المسبوق.
إسرائيل بقيادة نتانياهو وفريقه الصهيوني التوسع، باتت تتبنّى منظوراً استراتيجياً جديداً للأمن القومي، يقوم على منطق “الهيمنة المنفلتة لا الردع المحسوب”، بحسب محللين سياسيين. وهي تواصل الاستثمار في تداعيات 7 أكتوبر، كفرصة استراتيجية لإعادة تشكيل قواعد اللعبة في منطقة فقدت قوة الردع الإقليمي بعد تحطيم قدرات العراق وسوريا وتحييد مصر بمعاهدة سلام مكبّلة.
فهل تتحمّل إسرائيل ثمن المقامرة في إقليم يترنح على وقع الحروب والقلاقل منذ 75 سنة؟ وهل ينجح ترامب الذي يعارض رغبة إسرائيل في جر الولايات المتحدة إلى الحرب، في التوقيع على اتفاق بحسب مواصفات إسرائيل وأميركا؟