عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Feb-2021

من وحي المئوية (2) الشعب والأرض والهاشميون*د. جواد العناني

 الراي

المثلث الذي يرتكز عليه تحليل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأردن هو الذي تمثل أضلاعُه الشعبَ والأرضَ ونظام الحكم، أو الديمغرافيا والجغرافيا والهاشميين.
 
عام 1920 وصل الأمير عبدالله بن الحسين إلى الأردن في شهر تشرين الثاني، وكان عدد سكانها التقديري حسب المصادر البريطانية آنذاك أقل من 200 ألف نسمة، منهم (113) ألفاً من العشائر البدوية، والباقون كانوا أهل التجمعات السكانية المنتشرة من معانٍ جنوباً حتى اربد شمالاً، مروراً بالطفيلة والكرك وعمان والسلط وجرش وعجلون.
 
لما أُعْلن استقلال الأردن عام 1946، كان عدد السكان في ذلك الحين حوالي 400 ألف نسمة. وارتفع عام 1949 إلى حوالي 440 ألف نسمة. وفِي عام 1952 وصل إلى 576 ألف نسمة بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون. وفِي عام 1999 حينما تسلم الملك عبدالله الثاني مقاليد الحكم بلغ عدد السكان في الأردن 5.03 مليون نسمة، وبلغوا في نهاية 2020 أكثر من 10.5 مليون نسمة.
 
في كتابات المؤرخة (ساتانيه شامي) التي نشرها مركز الثقافة الفرنسي في الأردن أن أول هجرة وصلت للأردن من الشركس عام 1877، والبعض يقول أنها عام 1876، بأعداد قليلة رشحت من الذين هجّرهم قيصر روسيا نيقولا الأول. واستمر الضغط عليهم من قبل القيصر نيقولا الثاني فاستمرت هجرة الشركس، ومن بعدهم الشيشان بدءاً بالشابسوغ، ثم القبرطاي والأبزاخ والابِده وغيرهم. وقد اشتغل هؤلاء بزراعة الحبوب في مناطق عمان، ووادي السير وسحاب، وغيرها.
 
وجاء الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى بعد المذبحة، واستقروا في الأردن وفلسطين، وقد وصل عددهم في حده الأقصى عشرة الآف شخص بعد عام 1948، ولكن بسبب الهجرة تضاءل عددهم إلى أقل من ثلاثة آلاف. وقد قدموا للأردن مهارات التصوير، والميكانيك والتجارة. وأذكر أنه حتى عام 1955 لم يكن في عمان أحد يملك ستوديو تصوير غير أرمني إلا محل «خلف» بالقرب من طلعة الحايك، ولكن المصور كان أرمنياً.
 
وهنالك هجرة البهائيين من ايران، حيث يمثل عددهم القليل الآن الجيل الرابع على وجودهم في الأردن، وقد أتوا طلباً للجوء والأمن هرباً من الاضطهاد الديني. وقد قدم البهائيون في الأردن زراعة الحمضيات خاصةً في الأغوار الشمالية حيث ما يزال يشار إليهم «بالعجم» من قبل أهل المنطقة. وكذلك برعوا في تجارة الذهب والمجوهرات، وساهموا في الثقافة والتربية مثل سيف الدين الإيراني وعلي روحي وغيرهم.
 
وبالطبع فإن القادمين للأردن من جبل العرب في جنوب سوريا، ومحافظة السويداء تحديداً يشكلون جزءاً من تاريخ الأردن. وقد أتى في البداية دروز من لبنان ليعملوا في الطب (د. أمين تلحوق ود. سليمان النجار والد السيدة ليلي الشرف). ومنهم الأديب ومدير الاذاعة الأردنية عجاج نويهض، وكذلك أول رئيس لهيئة النظار وهو رشيد طليع، وساهم الشيشان مع الدروز في انتاج الملح في الأزرق.
 
وكانت هنالك هجرات للأردن من مصر (معلمون من خريجي الأزهر) وتجار ومزارعون من سوريا وفلسطين. وهؤلاء أتوا باستمرار إلى الاْردن في بدايات الإمارة. وكانت هجرتهم في البداية مؤقته (رواحاً ومجيئاً) لأغراض محددة، أهمها مقايضة القمح والحبوب باحتياجات أهل القرى والبادية. ثم بدأت تلك الهجرات بالاستقرار حتى كان ما عايشناه من هجرات ونكبات في فلسطين وسوريا ولبنان واليمن، ودفع من الكويت، وهجرات عمالية من مصر.
 
خلاصة الأمر أن عدد السكان في الأردن كان ينقص ويتزايد باستمرار. وقد اتسم النمو السكاني الطبيعي في البدايات بتدني معدله بسبب الأوبئة التي فتكت بالناس ولكن الهجرة كانت تعوض عن النقص وتوفر للأردن فرصة لتكبير حجم السوق، وتقسيم العمل، وادخال مهارات جديدة. ولو رسمنا لوحة بيانية لسكان الأردن سنة بسنة منذ عام 1921-2020، سنرى هبوطها وصعودها وكثرة القفزات في المنحنى بسبب الهجرة إلى داخل الأردن، كما هو الوضع في أكثر الحالات، أو هجرات إلى الخارج في حالات أقل خاصة بعد 1973 إلى منطقة الخليج.
 
من خلاصة التحليل أعلاه، نرى أن عنصر السكان كان متقلباً متحركاً وهي سمة مستمرة في القرن الأخير، وعليه نستطيع ان نقول إن ضلع المثلث السكاني لم يكن ثابتاً.
 
اما الأرض الأردنية، قد أُستخدمت إما للرعي أو لزراعة الحبوب في حوران والبلقاء، ومأدبا والكرك على وجه الخصوص. ويقول كثيرون إن معدل نصيب الفرد من المياه عام 1925 على سبيل المثال كان أكثر من ثلاثة آلاف متر مكعب للفرد، وكان الأردن ينتج فائضاً من القمح والحلال ما يكفي الأردنيين ويزيد.
 
المياه كانت وفيره لكنها لم تكن متاحة. ولذلك لم يتَعَد استخدام المياه للفرد الواحد سبعين متراً مكعباً في السنة والحصول عليه كان بشق الأنفس. أما القمح فلم يزد الانتاج عن 60 ألف طن من القمح الصلب الذي صدّر معظم فائضه إلى إيطاليا عبر موانئ لبنان لأنه الأفضل لإنتاج الباستا، أو أصناف المعكرونة.
 
والأرض لم تكن مرتفعة الثمن بل إن الكل زهد فيها، ولَم يصبح لها قيمه إلا بعد أن كثر السكان. وبسبب التغيرات الكبيرة في عدد السكان، خاصةً في المدن، فإننا نرى الطلب على الأرض صار يأخذ منحى الدرج الصاعد. فالأسعار تبقى مستقرة حتى تصل دفعات من المهاجرين الجدد، فيقفز سعرها عمودياً لعدد من السنوات، ثم يعود فيصبح أفقياً حتى تأتي موجة جديدة، قينقَضُّ الطلب قائماً. ولذلك، فإن الاقتصادي الفرنسي (ثوماس بيكيتي) بيّن في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» أن الأردن واحد من الأمثلة الناصعة على أن الأرض والعقار والاستثمار فيها تسبب بالدرجة الرئيسيّة في تكوين طبقة ثرية جديدة في الأردن.
 
ومع أن مساحة الأردن تتجاوز 89 ألف كيلومتر مربع، إلا أن الغالبية العظمى للسكان تعيش على 15% فقط من الأرض. مما يعني أن التوزيع السكاني ليس توزيعاً أمثل، والسبب الأساسي بالطبع هو أن المهاجرين الجدد إلى الأردن يتجمهرون في أماكن محددة بالقرب من المدن الرئيسية. ويخلقون مركزاً سكانياً جديداً يمنح فرص عمل أو استثمار لأهل الأردن الأصليين. فترى التجمع الجديد من المهاجرين محاطاً بأسورة من الأردنيين المتعاملين مع المخيم أو التجمع الجديد.
 
وقد شهدت مساحة الأردن تغيرات عدة، ففي عام 1950 زادت مساحة الأردن 5,860 كيلو متراً مربعاً، وهو مساحة الضفة الغربية. ولكن بعد حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية خسر الأردن تلك المساحة وزاد عدد السكان بالمقابل بحوالي 300 ألف مواطن. وفِي الأعوام 1968-1971 خسر الأردن بعض المساحات بسبب حرب الاستنزاف على حدود الضفة وإسرائيل، وقد استعيدت هذه الأرض عام 1994 بعد توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل.
 
وتحوي الأرض الأردنية ثروات معدنية أهمها الفوسفات، والبوتاس، وأراضي الأغوار الصالحة للزراعة المكثفة خاصة في فصلي الخريف والشتاء، والرمل والطين، والسيليكا، والفيلدسبار واليورانيوم مما يسمح بخلق صناعات كبيرة. وقد بدأت كل هذه المصانع في الظهور بعد الوحدة بين الضفتين حيث أُنشئت صناعات الاسمنت، والفوسفات والبوتاس، ومصفاة البترول، والدباغة لمعالجة الجلود، وشركة» جت» لنقل السياح بسبب وفرة الأماكن السياحية التاريخية. وبعد فورة النفط عام 1974، بدأ الأردن يعزز مسيرته التنموية بالبنى التحتية، والطرق، والمرافق الجديدة، وبكلفة زهيدة جداً.
 
ولكن هذا الإنجاز التنموي الكبير في بلد لم يعرف الاستقرار، ولو لعقد واحد، بدون حروب أو ضغوط أو هزات من الإقليم والعالم.
 
إذاً فالضلع الثاني من المثلث، وهو الأرض، لم يكن مستقراً لا في مساحته ولا في عدد السكان الذين يعيشون عليه ولا في توفر العناصر المتاحة فيه متناسباً مع توزيع السكان. والسؤال إذاً، ما الذي حقق الاستقرار؟
 
دعونا نذهب الى الضلع الثالث، من أوائل التحديات التي واجهها الملك المؤسس عبدالله الأول هو ان يؤلف قلوب الناس حوله. وكان قد عقد قبل وصوله مؤتمر في لواء الكورة عام 1920 حددت فيه الأردن بسبع مناطق وسُمي أمراؤها بصفتهم مسؤولين عنها بدون الدخول في شرح كثير ماهية العلاقة بين هذه المناطق وأولئك الأمراء. ولما وصل الأمير عبدالله إلى معان لم يكن هدفه الأردن فحسب، بل كان يهدف إلى استعادة سوريا من الفرنسيين، ولكن لما أقنعه الإنجليز في القاهرة بالعدول عن ذلك، وحصل الأردن على انتداب مستقل عن فلسطين بدأ الأمير عبدالله حينئذ بتوطيد ملكه بالسياسة حيناً، وبِهز العصا حيناً آخر، حتى دانت له الأمور بعد عام 1926.
 
ومع أن الأمير عبدالله بدأ بتأسيس جيش له في أواخر عام 1920 من أجل استعادة سوريا، إلا أن تعيين » جون باجوت جلوب»، أو كلوب باشا كما يعرفه الأردنيون بدأ بتأسيس قوات البادية الصحراوية من أبناء العشائر البدوية،. فإن انشاء قوات البادية من اجل إيقاف غزوات العشائر على بعضهم البعض. وقد أدى هذا إلى ربط العشائر ورؤسائها بالأمير عبدالله مما ساهم في استقرار الحكم.
 
وكذلك، فإن الأردن قد عانى الأمرّين اقتصادياً في عقد الثلاثينيات وأوائل الأربعينات بسبب الكساد الاقتصادي العالمي الذي تزامن لسوء الطالع مع سنوات من القحط بسبب شُح الأمطار. وقد كانت تأتي للأردن مساعدات غذائية تستلمها الحكومة والديوان الأميري، ويعاد توزيعها على المحتاجين. وبسبب ذلك صار الناس يوسطون شيوخهم لدى القصر الأميري من أجل الوظيفة أو المعونة الغذائية.
 
وبالمقابل، وجد الشعب في الأمير عبدالله حاكماً عطوفاً، يحن عليهم، ويسعى لمساعدتهم، وينسل من آل هاشم أكرم بيوت العرب حسباً ونسباً ما أعطاهم شرعية دينية واضحة.
 
ولما جاء الملك طلال بن عبدالله، فإنه ألغى قانون الأساس لعام 1928، وقانون الأساس لعام 1938، والدستور الأول عام و1946 والذي صدر عام 1948، واستبدالها بدستور عصري حديث عام 1952 يضاهي أفضل دساتير العالم حينئذ في اعترافه بالحقوق الأساسية للمواطنين، وبالفصل بين السلطات، وبتعريف أدوار الملكية والحكومات والمؤسسات، وبواجبات المواطن وحقوقه. وكان بالفعل نقلة نوعية من العلاقة الأبوية إلى العلاقة الدستورية القائمة على مبادئ الديمقراطية.
 
جاء هذا الدستور بعد سنتين من الوحدة بين الضفتين الشرقية والغربية، وقال إن الكل يقبل بالهاشميين ملوكاً فالاردن نظام ملكي وراثي برلماني، والشعب فيه مصدر السلطات، حيث جاء الدستور ترجمة للأفكار التحررية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية ممثلة بالأحزاب التي ازدهرت في أوائل الخمسينات في الأردن.
 
وقد أدت الوحدة إلى تلاحم تلك الأحزاب، ومن هنا جاء دستور عام 1952 ليتواءم مع هذه الوقائع، خاصةً وأنه لم يمضِ على ضياع فلسطين وإنشاء اسرائيل سوى خمس سنوات عند وضع ذلك الدستور.
 
ولكن شهدت الخمسينات ولادة نظام قومي عربي في مصر، ونشاط الأحزاب الوحدوية، ونمواً في الحركتين الإسلامية من ناحية، وغير الدينية الممثلة بالعلمانية القومية مثل حزب البعث والقوميين العرب، أو ممثلة باللادينية كما هو حال الحزب الشيوعي.
 
وهنا وجد الراحل الملك الحسين بعدما استلم العرش من والده عام 1952/ 1953 مواجهاً بواقع عربي حوله ينظر إلى الأردن ساحة خلفية للصراع بين أنظمته، ونشطت التحركات الانقلابية حتى وصلت أوجها عام1955 بعد فشل مشروع حلف بغداد، وعام 1957 بعدما تولت حكومة وطنية (حكومة سليمان النابلسي) الولاية العامة، ولكن اكتشاف محاولة انقلاب على العرش، خاصةً من قادة الجيش الأردنيين الذين تولوا الأمور بعد تعريب الجيش عام 1956 أدت إلى إعلان الأحكام العرفية، وإقالة الحكومة، وإلغاء تراخيص الأحزاب، ومحاكمة المتآمرين.
 
وفِي عام 1958، توحدت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة وتوحد النظامان الهاشميان في العراق والأردن، ولكن سرعان ما قام انقلاب في العراق أنهى الاتحاد العربي الهاشمي الذي ولد تاريخ 14 شباط عام 1958 (أي قبل حوالي 63 عاماً)، وانتهى في 14 تموز عام 1958. ومورست أبشع جرائم القتل بحق الأسرة الهاشمية ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد والأردني ابراهيم هاشم ووزير الدفاع الأردني وسليمان طوقان، واللذين كانا في زيارة رسمية للعراق يومها. ويصف الراحل الملك الحسين هذه الوقائع في كتابه «Uneasy Lies the Head». لقد كان ضلع الديمغرافيا متخلخلاً بحكم الظروف الإقليمية، والأرض كانت تعطي عَلى مراحل، ولكن الضلع الثابت والمستقر هو ضلع الحكم، الذي مارس دوره كمنظم بارع في جعل المثلث صامداً غير مخلخل ولا مخلع الجوانب، ولهذه النقطة تجليات أخرى كثيرة ستظهر تباعاً في أُطر أخرى سنتناولها في المقالات القادمة.