الهجرة النبوية الشريفة دروس وعبر*د. مشعل الماضي
الراي
بقلوبٍ مؤمنة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقولٍ تستلهم من التاريخ سننه ودروسه، نرفع إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، وولي عهده الأمين سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، أطيب آيات التهنئة وأصدق مشاعر الولاء بمناسبة حلول ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، سائلين المولى عز وجل أن يعيدها على جلالته والأسرة الهاشمية، وعلى الشعب الأردني الوفي، والأمة العربية والإسلامية، بمزيد من الخير والرفعة والتمكين.
إن ذكرى الهجرة النبوية ليست مجرد انتقال جسدي من مكة إلى المدينة، بل هي تحوّل مفصلي في مسار الرسالة الإسلامية، وتأسيس لمجتمع قيميّ يستند إلى مبادئ العدل، والمساواة، والحرية، والتكافل، والوحدة الإنسانية. لقد كانت الهجرة فعلًا حضاريًا يحمل في طياته مشروع بناء الدولة، وميلادًا لحضارة روحية وعقلية مزجت بين الإيمان والعمل، وبين العقيدة والتنظيم، وبين الفرد والمجتمع.
أولى دروس الهجرة تتجلّى في معنى التوكل الحقيقي؛ إذ خرج رسول الله ﷺ وصاحبه أبو بكر في ظلمة الليل، لا يحملان من متاع الدنيا شيئًا، لكنهما كانا يملكان يقينًا لا يتزحزح بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر حليف من يستمسك بالحق، مهما اشتدت عليه الخطوب.
وفيها أيضًا تتجلى أسمى معاني الأخوّة الإنسانية، من خلال المؤاخاة التي سنّها النبي الكريم بين المهاجرين والأنصار، فكانت تجربة اجتماعية فريدة قامت على الإيثار والبذل والمشاركة لا على التنافس أو التفاضل. لقد بنى ﷺ مجتمع المدينة على أساسٍ متينٍ من المواطنة الصادقة، فآخى بين الأوس والخزرج، وكتب صحيفة المدينة، التي تُعد أول وثيقة دستورية تنظم العلاقة بين مكونات المجتمع على اختلاف معتقداتهم، في سابقٍ لم تعرفه البشرية من قبل.
أما في الجانب السياسي، فقد شكّلت الهجرة إعلانًا لبداية التنظيم السياسي الإسلامي، حيث أرسى النبي ﷺ قواعد الحكم الراشد القائم على الشورى، والعدالة، والمسؤولية، والالتزام بالعهد، مؤسسًا أول نواة لدولة تُحكم بالشرع وتُدار بالعقل وتُبنى بالتكافل بين أفرادها.
وفي البُعد الاقتصادي، كانت الهجرة دافعًا لتحريك عجلة الإنتاج، فالرسول ﷺ شرّع السوق الإسلامية، ونظّم علاقات البيع والتجارة بما يضمن النزاهة والعدالة. وكان يحثّ أصحابه على العمل والسعي، كركيزة للكرامة والاستغناء، مؤكدًا أنّ القوة الاقتصادية ركنٌ من أركان الاستقلال الحضاري.
أما البُعد التربوي، فالهجرة محطة لإعادة بناء الإنسان، صياغةً وإيمانًا وسلوكًا. إذ علّمت المسلمين الصبر على الشدائد، والانضباط في المواقف، والطاعة في حدود الحق، والثقة بقيادة راشدة. إنها مدرسة متكاملة لبناء الشخصية المؤمنة، القوية، الواعية، المنتجة.
واليوم، إذ نُحيي هذه الذكرى المباركة في ظل قيادة هاشمية حكيمة، لا يسعنا إلا أن نستبصر من الهجرة معاني الإصلاح والتجديد والتماسك، وهي ذاتها القيم التي يحملها الأردن بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني في سعيه لإعلاء شأن الوطن، وترسيخ قيم التسامح، والانفتاح، والتوازن، وسط عالم مضطرب.
فلنجعل من ذكرى الهجرة النبوية فرصة لتجديد العهد مع الله والوطن، ولنستحضر معانيها في بيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا، لتظل الهجرة منطلقًا دائمًا نحو الإصلاح والبناء والتجدد الحضاري.