عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Nov-2025

مهمشون بـ"القانون"..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

ثمة في حقل دراسات ما بعد الكولنيالية إطار نظريّ يشخص موقع الفلسطينيين، كشعب مستضعف، في بنية ما يدعى النظام القانوني العالمي: «التهميش القانوني الدولي»International Legal Subalternity . والتهميش في هذا السياق عدم الإقصاء المطلق من مظلة القانون، وإنما إدراج الجماعات المستعمَرَة ضمنها بطريقة تُبقيها في موقف «الوجود الهامشي». إنها تُمنح الاعتراف القانوني ونوعًا من الشخصية، ولكن من دون تمكين فعلي ولا سيادة ناجزة. وبذلك يتحول الوجود القانوني نفسه إلى آلية تضبط حركة المُخضَعين وتعيد إنتاج ضعفهم داخل منظومة صاغت معاييرها وتتحكم فيها القوى التي تضع نفسها في مركز النظام.
 
كان أنطونيو غرامشي هو أول من أضفى على المصطلح طابعًا نظريًا، فاستخدم كلمة subaltern (التي تعني في اللاتينية «الذي يكون تحت آخر»، أو «الخاضع لمن فوقه») ليصف الطبقات الاجتماعية التي تقع خارج مواقع السلطة، والمحرومة بنيويًا من القدرة على التنظيم السياسي أو تمثيل نفسها في النظام القائم. ثم، في وقت لاحق، طورت أستاذة دراسات ما بعد الاستعمار، الهندية غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، المفهوم في مقالة شهيرة بعنوان «هل يمكن للمهمش أن يتكلم»؟ Can the Subaltern Speak? ليشير إلى المستعمَرين والمستضعَفين الذين لا يُسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم إلا من خلال خطاب المستعمِر ولغته، وبذلك يُحرمون القدرة على إنتاج خطابهم المستقل ويتحدث باسمهم الآخرون. وتحجب هذه الآلية التجربة الحقيقية للجماعة المعنية، لتحل محلها تمثيلات استعمارية أو سلطوية.
عندما يتعلق الأمر بالإطار القانوني الدولي، يكون هذا العجز البنيوي عن التعبير مقرونًا حتمًا بانعدام القدرة على التأثير في تحديد معايير الشرعية والعدالة، بينما تحتكر القوى الكبرى أدوات الفهم والتطبيق وتفرض رؤيتها الخاصة لما يُعتبَر قانونيًا أو مشروعًا. وقد جسدت حالة فلسطين دائمًا هذا النمط البنيوي. ثمة اعتراف قانوني دولي قائم منذ عقود بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، لكنه اعتراف جعلته القوى التي تتحكم في تفسير القانون وتطبيقه مشروطًا ومعلَّقًا. وعكفت والولايات المتحدة وقوى المركز الاستعماري الأوروبي الداعمة للكيان الاستعماري الصهيوني على إعادة صياغة حدود هذا الاعتراف بما يتوافق مع هندسة سياسية تديم امتيازات القوة الاستعمارية القائمة. وبذلك تحوّل القانون من أداة حماية إلى جهاز يضبط المجال السياسي ويعيد إنتاج الهرمية الاستعمارية بلغة قانونية تصف نفسها بأنها محايدة.
كما هو معروف، كانت القوى الاستعمارية هي التي أنشأت القانون الدولي كتقنية لشرعنة التوسع الاستعماري وتقاسم الامتيازات والنفوذ بينها. وصيغت مفاهيم السيادة والاعتراف الدولي وفق نفس ثنائية الفكر الاستعماري التي تميز بين «الشعوب المتحضرة» القادرة على ممارسة السيادة، و»الشعوب القاصرة» التي يجب أن تظل تحت الوصاية. ومع أن الاستعمار التقليدي انتهى في معظمه شكلاً، فإن بنيته القانونية لم تُفكَّك، وأعيد إنتاجها في أشكال جديدة من الاعتراف المشروط الذي يمنح الدولة التابعة وصف «الاستقلال» ويسجلها في قائمة الكيانات الدولية، بينما يديم الآليات التي تبقي السيادة خارج متناولها.
بدأت التجربة الفلسطينية المريرة مع عمل هذه البنية مع الانتداب البريطاني قبل قرن وثلاثة أعوام تقريبًا. في العام 1922 منحت «عصبة الأمم» التي مثلت «القانون الدولي» بريطانيا تفويضًا بإدارة فلسطين «تحضيرًا لاستقلالها»، بينما كرّست الوثائق الملحقة بصك الانتداب التزام بريطانيا بإنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين». وبذلك، كان القانون الدولي أداة لتقنين استعمار مزدوج: منح شرعية للهيمنة الاستعمارية البريطانية، ووفّر الأساس القانوني لتنفيذ المشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. ولم يكن للفلسطينيين، وفق هذا «القانون» أي صوت أو رأي في تحديد مصيرهم، وسُجّلوا في النظام الدولي كـ»شعبٍ قاصر» يحتاج إلى وصاية خارجية. وما تزال هذه البنية نفسها تتكرر اليوم، في تعارض مع افتراض تنقية الحداثة لمخلفات الحقبة الاستعمارية.
ينظر الفلسطيني اليوم إلى المحاولات الجارية لتقنين «خطة ترامب لغزة» في الأمم المتحدة، فيرى النمط المألوف من تهميشه بـ»القانون الدولي». وتسعى الخطة إلى إنشاء منظومة للإدارة الدولية للقطاع، تحت إشراف أميركي وغربي، تُمنح من خلالها شخصيات ومؤسسات أجنبية -غير صديقة للفلسطينيين كشرط لتأهلها- صلاحيات إدارة الموارد والإعمار والأمن، بينما لا يُترك للفلسطينيين دور يُذكر في تسيير شؤونهم. ولا يصعب تعقب القرابة من الدرجة الأولى بين هذه الصيغة والانتداب البريطاني: الاعتراف الشكلي بسيادة محلية منقوصة، مقرونة برقابة خارجية كاملة؛ نفس آلية الوصاية، وإنما بتوصيفات «الحوكمة»، و»إعادة الإعمار»، و»تحضير غزة لتسليمها للفلسطينيين» أو «تحضير الفلسطينيين لاستلام غزة» –لا أحد يعرف.
وبالتزامن مع هذا الخط، يُطرح «حل الدولتين» مرة أخرى كمظهر آخر للتهميش القانوني الدولي للفلسطينيين. فكما هو معروف، طُرحت صيغة هذا الحل في مثل هذا الشهر من العام 1967، في قرار مجلس الأمن 242 الشهير. ثم أعيد طرحه في «اتفاقات أوسلو» 1993 و»مبادرة السلام العربية» 2002. ومع أنه يتأسس –ظاهريًا- على مبدأ تقرير المصير، فإن آليات تطبيقه ظلت دائمًا خارج متناول الفلسطينيين. ويعِد هذا الحل الفلسطينيين بنسخة ضيقة من حقوقهم تناسب الحسابات الجيوسياسية: دولة منزوعة السلاح على أرض محدودة، وسيادة مشروطة تخضع لأولويات أمن الكيان الاستعماري، وحقوق مقيدة بمفاوضات صممها وأطرها فاعلون خارجيون، لا يفعلون أي شيء– بل يفعلون كل شيء لضمان عدم تحقيقها. وبذلك يُمنح الفلسطينيون نوعًا من الاعتراف الذي يعيد التأكيد فقط على وضعهم كتابع، ولا يتيح لهم مطلقًا تحديد مستقبلهم بشروطهم الخاصة.
الخدعة السحرية للتهميش القانوني الدولي أنه لا يقصي المستضعفين من مظلة الشرعية، لكنه يواصل العبث بتعريف الشرعية بما يعيق تحوُّل الاعتراف القانوني إلى سيادة متحققة. الفلسطينيون موجودون في القانون، وإنما على هوامشه؛ معترَف بهم كـ»شعب»، لكنّهم مشروطون بموقع يجردهم من القدرة على نيل الحقوق. وهي البنية نفسها التي تجعل من حل الدولتين -كما هو حاله اليوم- جزءًا من آليات الاحتواء وليس التحرر. وإلى أن يتم تفكيك البنى الخطابية التي تأسس عليها القانون الدولي، وإعادة تعريف مفاهيم الاعتراف والسيادة، سيظل الفلسطينيون أسرى نظام قانوني يعيد إنتاج نفس ترتيب السيد والتابع.