الدستور
ليس احتلال الأرض هو أخطر ما يمكن أن تواجهه الشعوب فكثيرة هي البلاد التي تعرضت لاحتلالات عبر التاريخ القديم والحديث، وبعد العديد من السنوات كان ينتهي هذا الاحتلال إلى غير رجعة وهذا هو حال العالم العربي الذي تعاقبت على احتلاله عشرات الإمبراطوريات وذهبت وبقيت الأرض وبقيت شعوبها تبني حضارتها وتؤسس لمستقبلها.
أما أكثر الأخطار المحدقة التي يمكن أن تتعرض لها الشعوب فهي إلغاء ذاكرتها والسيطرة على مفاهيمها وحرف بوصلتها فيما يطلق عليه أو يعرف بغسيل الدماغ أي أن يقوم الشعب الواقع تحت الاحتلال من ذات نفسه باستبدال كل ما له علاقة بتاريخه وتراثه بذاك المستحدث من قبل المحتل الذي يفرض الوقائع تلو الأخرى على الأرض لتتحول مع مرور الوقت لحقائق ثابتة يتعامل معها الشعب الواقع تحت الاحتلال على أنها حقيقة ثابتة متناسياً تاريخه العريق وحضارته الممتدة لآلاف السنوات وهذا بالضبط ما يحدث مع شعبنا حيث أصبحنا نتعامل مع رموز الاحتلال على أرضنا على أنها هي الحقائق الثابتة متناسيين بأنها أرضنا وأن هذا هو تدمير لتراثنا وتاريخنا القديم.
فعندما تسأل أحدنا من أي شارع ستمر يقول لك من شارع ستين الذي هو رمز لسرقة أرضنا، وعندما يُسأل أحدنا أين أنت الآن يجيب أنه على مفترق عتصيون أو عند مستوطنة أرئيل أو بالقرب من عوفرا، وهكذا حتى أصبحنا لا نقر بوجود مدننا وقرانا الفلسطينية التي يتجاوز عمرها عمر الاحتلال بعشرات المرات، وتصبح الأراضي التي سرقها الاحتلال وزرع سرطانه المسمى بالاستيطان عليها أماكن نتعامل ونتعارف على مكان التقائنا أو سيرنا بها، هذا غيظ من فيض فشبابنا يتفاخرون بسماع الأغاني العبرية ويتحدثون هذه اللغة فيما بينهم وداخل بيوتهم وعلى وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، هذا عدا عن الكثير من المظاهر الغريبة المستحدثة التي تظهر بوضوح مع كل ما يأتينا من الاحتلال وما يصدره لنا من روايات ومعلومات أصبح متعارف عليها الآن بين أبناء شعبنا بل ويتم التعامل معها على أنها هي الحقيقة الثابتة وهذا هو الخطر الحقيقي، فالاحتلال ينتهي ورموزه يمكن أن يتم دحرها وتجاوزها أما أفكارنا ومحتوانا الثقافي المخترق فلن يتم إصلاحه وسيبقى يلاحقنا لمئات السنوات. وهذا ما نحذر منه تحديداً فأخطر ما يمكن أن يتعرض له شعب على وجه الأرض هو فقدانه لبوصلته الفكرية والثقافية والتاريخية والحضارية.