الغد
روجر برنت؛ تي. غريغ ماك كلفي جونيور؛ وجيسون ماثني* - (فورين أفيرز) 9/9/2024
في مجال الأمن السيبراني، يمثل "اختبار الاختراق" محاكاة مصطنعة لهجوم على أنظمة الدفاع في الحاسوب، وتستخدم فيه أدوات وتقنيات قد يستخدمها أعداء في شن هجمات سيبرانية.
وتستعمل الحكومات والشركات من كل الأنواع اختبارات الاختراق. مثلاً، توظف البنوك، بصورة دورية، خبراء الحاسوب ليخترقوا دفاعات أنظمة حواسيبها الخاصة، وتنظيم عمليات نقل أموال إلى حسابات غير شرعية، غالباً باستعمال "التصيد الاحتيالي" كوسيلة للحصول على أذونات معتمدة ممنوحة للموظفين لتمكينهم من دخول تلك الأنظمة. وبعد نجاح اختبارات الاختراق، يقدم المختبرون المعلومات الناتجة إلى المؤسسات المعنية، ويقدمون توصياتهم عن كيفية تحسين الأمن.
مع ختام العقد الماضي وبداية الحالي، تعرض المجتمع الإنساني نفسه إلى نوع من اختبار الاختراق، تمثل في "كوفيد 19". وقد استكشف ذلك الفيروس؛ الخصم الذي لا يفكر، قدرة العالم في الدفاع عن نفسه ضد عناصر مرضية جديدة. وفي نهاية الاختبار، اتضح أن الإنسانية فشلت حين تفشى "كوفيد 19" في كل مكان، من محطات البحث النائية في القطب الشمالي إلى القبائل الأمازونية المعزولة، وعصف بدور الرعاية وحاملات الطائرات.
وفي سياق انتشاره، ساوى بين القوي والضعيف، وبين العاملين الصحيين المتصدين مباشرة له ورؤساء الدول. وقد تباطأ انتشاره ولم يتوقف بتأثير الإجراءات المشددة التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية واللقاحات المعجزة التي طورتها الديمقراطيات. ومع نهاية العام 2022، أصاب الفيروس ثلاثة من كل أربعة أميركيين ولو مرة واحدة. وبعد ستة أشهر من إنهاء الصين قيود سياسة "صفر كوفيد" في كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، أصابت عدوى الفيروس ما يزيد على مليار صيني.
ولم يتمثل السبب الرئيس في اعتدال نسبة الوفيات بسيطرة المجتمعات على المرض. حصل ذلك لأن العدوى الفيروسية نفسها لديها قدرة متواضعة على القتل، وفي النهاية استهلك فيروس "كوفيد 19" نفسه بنفسه.
يجدر التأمل بعمق في فشل البشرية أمام "كوفيد 19" لأن العالم يواجه عدداً متزايداً من التهديدات البيولوجية التي يأتي بعضها من الطبيعة مثل انفلونزا الطيور، لكن الكثير منها يجيء من التقدم العلمي.
وخلال الأعوام الـ60 الفائتة، طور الباحثون مفاهيم متقدمة عن البيولوجيا الجزيئية والبشرية، مما أتاح لهم تطوير عناصر ممرضة فاعلة تمتلك قدرة مميزة في القتل، وفهموا أيضاً كيفية تكوين فيروسات تستطيع التملص من جهاز المناعة، وتعلموا كيفية تطوير فيروسات موجودة بالفعل لتغدو أكثر فتكاً، ويبقى من غير الواضح ما إذا كان "كوفيد 19" قد جاء من مثل تلك النشاطات أو أنه تغلغل بين الجموع البشرية عبر تفاعلها مع الحياة البرية. وسواء كان السبب هذا أو ذاك، فمن الجلي أن التقنيات البيولوجية، بعد أن أصبحت الآن تحظى بدعم الذكاء الاصطناعي، سهلت أمر إنتاج الأمراض أكثر من أي زمن مضى.
إذا تسرب أو أُطلق عنصر مُمْرض صنعه الإنسان أو حسنه من مختبر، فقد تترتب على ذلك نتائج كارثية، وقد تمتلك بعض الأمراض المصنعة القدرة على الفتك بالناس والتسبب بتخريب اقتصادي أكثر مما فعل فيروس كورونا الجديد. وفي أسوأ السيناريوهات، قد تتجاوز حصيلة الوفيات ما تسبب به "الموت الأسود"، الطاعون الذي قتل واحداً من كل ثلاثة أوروبيين في القرن 14.
إن درء كارثة كتلك يجب أن يشكل أولوية لقادة العالم، إذ لا يقل تعقيد تلك المشكلة عن التحديات الكبرى في بدايات عصر "أنثروبوسين" أو "حقبة التأثير البشري"، بما في ذلك تخفيف أخطار الأسلحة النووية وتأثر الكوكب الأرضي بأسره بالتغيير المناخي، وكذلك التعامل معها. وللسيطرة على تلك الأخطار، يجب أن تشرع الدول في تقوية مجتمعاتها كي تحميها من العناصر المُمْرضة المصنعة بشرياً. وعلى سبيل المثال، يجب أن تبدأ في تطوير أنظمة إنذار تستطيع تقصي الأمراض المصنعة بالهندسة البيولوجية، وأن تتعلم كيف تقفز بمستويات إنتاج معدات الوقاية الشخصية وكيفية تطويرها وزيادة فاعليتها. كما تحتاج إلى تقليص الوقت اللازم لتطوير وتوزيع لقاحات وأدوية مضادة للفيروسات كي يحدث ذلك في أيام ولا يستلزم أشهراً. وتحتاج إلى السيطرة على التقنيات المستخدمة في تكوين الفيروسات والتلاعب بتركيبتها، وأن تفعل الحكومات هذه الأمور كلها بأقصى سرعة ممكنة.
تجارة خطرة
لأكثر من قرن، نظر معظم الناس إلى البيولوجيا بوصفها قوة تقد. وبحلول بواكير القرن الحادي والعشرين، كانت اللقاحات قد ساعدت البشرية بالفعل في استئصال الجدري وطاعون المواشي وكادت أن تجتث شلل الأطفال. لكن النجاحات جاءت متفرقة، وما تزال أمراض وبائية كثيرة بلا علاج. وبذلك، يشكل النجاح في القضاء على عناصر مُمْرضة الاستثناء وليس القاعدة.
في المقابل، لا يمكن إنكار التقدم. ويقدم الإيدز النموذج الأفضل عن الكفاءة النوعية للإنجازات الإنسانية. فعلى مدى عقود، قتل الإيدز كل من أصيب به، وكذلك يستمر في إصابة ملايين البشر سنوياً. ولكن، بفضل الابتكار العلمي، يملك العالم الآن خلطات من الأدوية التي توقف التكاثر الفيروسي، والتي حولت ذلك المرض من حكم بالإعدام إلى حالة طبية قابلة للسيطرة عليها. ويعتمد هذا النوع من التقدم الطبي على مشاريع مميزة، لكن التنسيق بينها يتسم بالضعف لأن كلاً منها جاء كاستجابة لحافز مختلف، حيث تعمل تلك المشاريع على تقديم الرعاية الصحية وإدارة الصحة العامة والدخول في بحوث طبية وعلمية.
في المقابل، يشكل التقدم سيفاً ذا حدين. فقد سهل تنامي فهم البيولوجيا للميكروبات الطريق أمام حدوث تطور كبير في صحة الإنسان، لكنه مكن أيضاً المحاولات الرامية إلى زعزعتها. خلال الحرب العالمية الأولى، درس الحلفاء إمكانية استعمال أسلحة بكتيرية، واستخدم الجيش الألماني وعناصر استخباراته تلك العناصر المُمْرضة في مهاجمة المواشي التي استعملها الحلفاء في النقل، وأحدثوا أمراضاً في الأحصنة والبغال في فرنسا ورومانيا. وفي النرويج، حاولوا نقل الأوبئة إلى غزلان الرنة التي استعملها شعب الـ"سامي" لنقل الأسلحة إلى القوات الروسية. وتوصل ضباط ألمان حتى إلى نقل أوبئة معدية إلى الحظائر والاسطبلات الأميركية التي مُلئت آنذاك بحيوانات متوجهة إلى أوروبا.
حينما بدأت الحرب العالمية الثانية، نضجت تلك المبادرات وأصبحت أسلحة مصممة لقتل البشر. في منشوريا المحتلة آنذاك، وجه شيرو إيشي؛ الضابط في الجيش الياباني، قواته في الوحدة المشؤومة، 731، إلى اختبار أسلحة بيولوجية ضد البشر. ونقلوا إلى آلاف السجناء أنواع العدوى التي شملت آنثراكس (الجمرة الخبيثة) والتيفوئيد ونظير التيفوئيد والزحار والرغام وطاعون دبلي، ثم قتلوهم.
وأثناء الأيام الأخيرة من الحرب، اقترح إيشي تنفيذ عملية عسكرية واسعة بأسلحة بيولوجية سميت "زهور الكرز في الليل"، تقوم خلالها طائرات سلاح البحرية الياباني بنشر براغيث مصابة بالطاعون فوق المدن الأميركية الرئيسة على الساحل الغربي للبلاد. لكن رئيس أركان الجيش الياباني رفض الخطة، موضحاً أنه "إذا شنت حرب بيولوجية بكتيرية، فستتوسع إلى خارج حدود نطاق الحرب بين اليابان وأميركا إلى حرب لانهائية للإنسانية ضد البكتيريا".
ولم يؤد هذا الضرب من التفكير إلى وقف عمل بلدان أخرى على البحوث والتطوير في مجال الأسلحة البيولوجية. في ستينيات القرن العشرين، أطلقت وزارة الدفاع الأميركية "المشروع 112" الذي أجرى تجارب على كيفية النشر الواسع لعناصر مُمْرضة هجومية. وفي السياق، نشر الجيش عناصر بكتيرية في أنفاق مدينة نيويورك، وأطلق أخرى في شكل رذاذ بخاخات من قوارب في خليج سان فرانسيسكو، ورشت مواد كيماوية من طائرات الجيش فوق آلاف الأميال المربعة التي امتدت من جبال روكي إلى سواحل الأطلسي، ومن كندا إلى خليج المكسيك. وحسب رؤية المسؤولين الأميركيين، مثلت تلك الأسلحة ما يشبه سياسة الضمان ضد هجوم سوفياتي نووي. ويعني ذلك أنه إذا ضربت موسكو الولايات المتحدة وحيدت الترسانة النووية لواشنطن، فستبقى لدى الولايات المتحدة القدرة على إحداث الدمار في الاتحاد السوفياتي عبر شن هجوم مضاد بعناصر بيولوجية مُمْرضة قاتلة.
في منتصف ذلك العقد، التزمت وزارة الدفاع بتطوير أسلحة بيولوجية قاتلة أو تشل قدرات من تصيبه. ومع اقتراب نهاية عقد الستينيات، أنتج علماء الحكومة كميات وازنة من البكتيريا القاتلة والسموم التي تستطيع، بكلمات عالم الجراثيم رايلي هاوسرايت، "إرباك التشخيص وإحباط العلاج".
على كل حال، أثارت تلك التطورات الذعر لدى الباحثين المدنيين الذي قاوموا خطط واشنطن، ووجدوا آذاناً صاغية في البيت الأبيض.
في العام 1969، قرر الرئيس ريتشارد نيكسون إيقاف برنامج الأسلحة البيولوجية الأميركي، ودعا إلى معاهدة دولية تحظر هذا النوع من المبادرات، وعمل خبراء من خارج الحكومة على تعزيز رسالته وتضخيمها. بعيد إعلان نيكسون تقدم جوشوا ليدربرغ؛ عالم البيولوجيا الحائز على جائزة نوبل، للإدلاء بشهادة أمام الكونغرس لدعم خطة المعاهدة العالمية، وأوضح لدربرغ أن الأسلحة البيولوجية أصبحت قاتلة بمستوى نظيراتها النووية نفسه، في حين أن صنع الأولى أسهل.
وحسب ليدربرغ، فإن الأسلحة النووية "احتكرت بيد القوى العظمى لفترة طويلة تكفي للحفاظ على التوازن بحكم الأمر الواقع في ميزان الردع، وكذلك إرساء نظام أمني يستند إلى عدم الانتشار. لكن قوة الجراثيم ستعمل على عكس الصورة بالكامل".
لكن خصوم واشنطن الرئيسين لم يقتنعوا. ففي العام 1971، وأثناء التجاذب العالمي بشأن معاهدة للأسلحة الجرثومية، أطلق الاتحاد السوفياتي سلاحاً جرثومياً من سلالة فيروس "فاريولا ماجور" المسبب للجدري في جزيرة ببحر آرال، أدت إلى موجة انتشار للجدري في ما تسمى اليوم كازاخستان. وحوصرت الموجة الوبائية بفضل جهود بطولية من مسؤولي الصحة السوفيات، لكن جهودهم نجحت فقط لأن الوباء أصاب مكاناً قليل السكان، ولأن معظم مواطني الاتحاد السوفياتي كانوا ملقحين ضد الجدري ولديهم بعض المناعة في مواجهته.
في وقت متأخر من ذلك العام، وافق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على معاهدة تحظر الأسلحة البيولوجية سميت "ميثاق الأسلحة البيولوجية". وأوصت الأمم المتحدة بتبني المعاهدة دولياً. وفي العام 1972، فتحت الباب أمام توقيعها في لندن وموسكو وواشنطن. وفي النهاية، خرق الاتحاد السوفياتي المعاهدة. في العام 1979، قضى 68 شخصاً في مدينة سفيردلوفسك التي تسمى اليوم يكاترينبورغ بعد انطلاق جراثيم من مشروع سري للأنثراكس (الجمرة الخبيثة).
لا يضم سجل موسكو أي حادثة أخرى مثبتة بشكل قاطع، لكن السوفيات استمروا في برنامج للأسلحة الجرثومية إلى حين تفكك الاتحاد السوفياتي. وبحسب منشقين، اشتغل في ذلك المشروع قرابة 60 ألف شخص حينما كان في ذروة عمله. وفي العام 1991، زار ممثلون عن الولايات المتحدة وبريطانيا بعض منشآت المشروع حيث رأوا صفوفاً من السفن والمفاعلات البيولوجية التي تستطيع إنتاج آلاف الليترات من فيروسات الجدري عالية الخطورة، وبإمكان تلك السفن ضخ الفيروس عبر أنابيب مبردة إلى قنابل صغيرة يمكن تحميلها على صواريخ.
واجه "ميثاق الأسلحة البيولوجية" مشكلة أخرى تمثلت في عدم منعه المجموعات الخاصة والأفراد من السعي إلى صنع تلك الأسلحة. وفي العام 1984، عمدت حركة "راجنيش" Rajneesh الدينية في ولاية أوريغون الأميركية إلى تلويث أوعية السلَطة في المطاعم بجرثومة "سالمونيلا". وكان هدفها هو إعاقة تصويت معارضين لمرشحي الحركة في انتخابات مقاطعة واسكو، ولم تسجل أي وفيات، لكن مئات الناس مرضوا. وفي العام 1995، أصابت مجموعة "أوم شينريكيو" Aum Shinrikyo الأبوكاليبسية التي تعتقد بقرب نهاية العالم آلاف الأشخاص في طوكيو بغاز "السارين" الذي يشل الأعصاب، وفي وقت سابق أخفقت محاولتها صنع أسلحة "آنثراكس".
وفي العام 2001، قتل خمسة أشخاص في الولايات المتحدة بهجمات "آنثراكس" استهدفت صحفيين ومكتبي سيناتورين في الكونغرس. ويعتقد "مكتب التحقيقات الفيدرالي" أن الذي نفذها هو عالم أميركي مستوحد.
قد يقدم النطاق الصغير نسبياً لهذه الحوادث دليلاً على أن أيدي الإرهابيين والدول ربما تكون مقيدة في الوقت الحالي، بحيث تمنعها من إلحاق أضرار بيولوجية واسعة النطاق، ربما بسبب الصعوبات التقنية أو القوانين القائمة. لكن هذا الأفق مفرط التفاؤل. بدلاً من ذلك، تظهر هذه الحوادث أن الاتفاقات الدولية السارية وإجراءات الصحة العامة لا تستطيع منع تلك الهجمات، كما تثبت أن من الخطأ الاعتقاد بأن الدول والإرهابيين يفتقدون الإرادة أو الوسائل لصنع أسلحة بيولوجية. صحيح أن بعض الأفراد والمجموعات يواجهون عوائق، مثل عدم القدرة على الوصول إلى المختبرات أو المنشآت المناسبة. لكن العوائق تتصدع وتسقط أمام التقدم التقني المستمر.
للأحسن أو الأسوأ
في العام 2012، نشرت مجموعة من العلماء قادها إيمانويل شاربنتيير وجنيفر دوندا، مقالة في مجلة "ساينس" العلمية المرموقة، وصفت نظاماً في الهندسة البيولوجية سمي "كريسبر - كاس 9" يستخدم حمضاً وراثياً مهجناً من الحمض النووي الريبوزي RNA، يستطيع تغيير تركيبة المواد الجينية بمثل سهولة تحرير كلمات نص مكتوب. وجاء الابتكار كإضافة إلى مجموعات مؤثرة من أدوات الهندسة البيولوجية الجزيئية، تشمل ما يسميه العلماء "إعادة دمج الحمض النووي الوراثي"، (ابتكر في سبعينيات القرن العشرين)، وتفاعل البوليمرات المتسلسل، (ابتكر في ثمانينيات القرن العشرين واشتهر باسمه المختصر "بي سي آر" PCR)، والحمض الوراثي التركيبي (ظهر أيضاً في ثمانينيات القرن العشرين).
يعد حمض "آر إن إيه" بمثابة اليد التنفيذية لأوامر الشيفرة الجينية في الـ"دي أن إيه"، ويمثل "بي سي آر" أداة مختبر تأخذ قسماً من تركيبة جينية موجودة في الـ"دي أن إيه" لتعيد استنساخها بكميات مليونية كي تسهل قراءة الشيفرة الوراثية المتضمنة فيها.
ومع هذه الأدوات كلها، حدث ما يشبه الانفجار في الفهم البشري للظواهر البيولوجية، وأعطى قوة دفع كبرى للاكتشاف والتطور في الطب. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2023، أجازت "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية علاجاً جينياً مركباً يعتمد على "كريسبر" كعلاج لمرض فقر الدم المنجلي الذي يضرب حياة ملايين البشر.
بسبب السياسة والاقتصاد والمؤسسات المعقدة التي يمر بها التقدم البيولوجي ليصل إلى البشر، قد تمر أعوام قبل أن تصل يد التغيير الإيجابي للتقدم التقني إلى الأشخاص المحتاجين إليها. وعلى سبيل المثال، يتسم العلاج الجيني لفقر الدم المنجلي بالتعقيد التقني والطبي وبارتفاع الكلفة (2.2 مليون دولار للشخص)، وبالزمن المكثف الذي يستلزمه، وبالتالي لم يصل سوى إلى حفنة من المرضى. وبينما يجهد العالم لنشر منافع التقنيات الجديدة المتطورة، يستمر بعض العلماء في إثبات القدرة على إحداث الدمار. في العام 2018، عمد شخص ضمن فريق من ثلاثة أفراد إلى إعادة تكوين فيروس جدري الأحصنة قريب الشبه من الجدري البشري، مستخدماً تقنيات إعادة التركيب للحمض الوراثي "دي أن إيه" والـ"بي سي آر"، والحمض الوراثي التركيبي. واستخدمت مجموعة أخرى تلك الأدوات نفسها، إضافة إلى أداة تحرير الجينات "كريسبر"، لتصنيع فيروس آخر على صلة مع الجدري. ومن السهولة بمكان استخدام هذه البحوث في إنتاج سموم قاتلة.
بصورة جزئية، تتنامى الأخطار أيضاً بسبب ثورة تكنولوجية ثانية تتمثل في بروز الذكاء الاصطناعي. ومع كل استخدام جديد، يتنامى تعقيد وقوة النماذج اللغوية الكبرى، مثل "تشات جي بي تي" ChatGPT و"كلاود" Claude. واليوم، يستفيد من النسخ الأكثر جدة من هذه البرامج آلاف العاملين في المختبرات بغية تسريع عملهم. ويجري ذلك، جزئيا، عبر تقديم نماذج الذكاء الاصطناعي لكميات كبيرة من التوجيهات والإرشادات في سياق ردها على أسئلة تقنية. وفي العام 2020، ابتكر علماء الذكاء الاصطناعي نظام "ألفا فولد" AlphaFold الذي قاد فعلياً إلى إيجاد حل لما يوصف بأنه "الكأس المقدسة" في علم البيولوجيا، وهو توقع التركيبة ثلاثية الأبعاد للبروتين الذي يصنع بواسطة الشيفرة الجينية المتضمنة في الأحماض الأمينية للحمض الوراثي. (تحمل الجينات الشيفرة الوراثية لتركيبة كائن بيولوجي مثل الإنسان أو الفيروس، وتشكل الأحماض الأمينية جزءاً أساسياً من تركيبة الجينات التي يحوي الحمض النووي الوراثي طواقمها. وبفضل الشيفرة التي تحملها الأحماض النووية يصار إلى تركيب البروتينات المتنوعة التي تؤلف أنسجة وأعضاء الإنسان أو المكونات المتنوعة للفيروس).
بالنسبة للإرهابيين البيولوجيين، تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي تسهيل الطريق أمام ارتكاب مذبحة. ويبدو أن النماذج الكبرى للذكاء الاصطناعي تم تدريبها على كامل المعلومات المعرفية المنشورة في مجال علوم الحياة. وبطبيعة الحال، تتوفر هذه المعارف على الإنترنت. ولكن ما من كائن بشري يستطيع قراءة واستيعاب واستخلاص تلك المعارف كلها. مع ذلك، تستطيع الأنظمة الحالية للذكاء الاصطناعي تصميم بروتينات وراثية جديدة (مما يمكّن من تصميم عناصر ممرضة خطرة)، وتنفيذ أعمال اختبارية عليها، حتى أن بعض علماء الحاسوب يعملون على صنع أنظمة مؤتمتة تستطيع تنفيذ مهمات في المختبر. وإذا نجحت تلك الجهود، سيصبح بمقدور أطراف شريرة تكوين عناصر ممرضة قاتلة بمجرد اختراق تلك المنشآت المؤتمتة.
وسيصعب تماماً على الحكومات وقفهم، إذ أثبت قراصنة الحاسوب قدرتهم على اختراق أعداد متزايدة من أنظمة الأمن الرقمي المعقدة، حيث تتوافر على نطاق واسع كل المواد اللازمة لاستيلاد عناصر ممرضة جديدة، بما في ذلك المعدات والمواد الكيماوية الفاعلة بيولوجياً. وقد يحاول المشرعون استهداف عشرات موردي تلك المواد ممن يقدمون طلبات مكتوبة عن مكونات محورية حساسة، لكن هناك طرقاً للالتفاف على أولئك الموردين، حيث قد يؤدي إغلاق أعمالهم إلى إبطاء عمليات قيمة في البحوث والتطوير ضمن حقل البيولوجيا الطبية.
إذا استطاعت أطراف شريرة التوصل في نهاية المطاف إلى إنتاج وإطلاق عناصر ممرضة فيروسية، فقد تصيب عدواها أرتالاً واسعة من البشر في وقت أقل مما يتطلبه عمل المسؤولين على اكتشاف تلك التهديدات والتعرف عليها، ثم بدء عملية التصدي لها. وفي النهاية، فإن استيلاد مسببات الأمراض (مثل الفيروسات والبكتيريا) أرخص من سبل التصدي لها، حيث لا يلزم سوى القليل من رأس المال اللازم للحصول على المنشآت والمواد بغية صنع مرض جديد، في حين أن الاستجابة لموجة وباء يحدثها المرض تتضمن مجموعة معقدة وهائلة الكلفة من المكونات التي تشمل إرساء شبكات مكلفة للفحص والتقصي، وكميات ضخمة من معدات الحماية الشخصية وإغلاقات مربكة اجتماعياً، ومنظومة تكون قادرة على تطوير وتصنيع وتوزيع العلاجات واللقاحات.
يجب أن تكفي فكرة إنفاق مليارات الدولارات في محاولة وقف جائحة أخرى كي تردع الدول عن تحويل البيولوجيا إلى سلاح. وفي المقابل، تستمر بعض الحكومات في السعي إلى مبادرات خطرة. في نيسان (أبريل) 2024، قدرت وزارة الخارجية الأميركية أن كوريا الشمالية وروسيا لديهما برامج هجومية للأسلحة البيولوجية، بينما تسعى الصين وإيران إلى تحقيق نشاطات بيولوجية يمكن تحويلها إلى أسلحة. وجميع هذه الدول هي أطراف موقعة على "ميثاق الأسلحة البيولوجية".
الردع بواسطة الدفاع
أثناء "الحرب الباردة"، تجنبت القوى النووية العالمية كارثة، ولو جزئياً، بفضل مفهوم التدمير المؤكد المتبادل. وأقر السياسيون بأن هجوماً نووياً واحداً من شأنه إطلاق رد يحمل نذر فناء كوكب الأرض. ووفق إعلان شهير من الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، فإنه "لا يمكن الفوز في حرب نووية، ويجب ألا تخاض على الإطلاق". وقد توصلت الدول النووية إلى قناعات متطورة في السيطرة على تكنولوجياتها، وردعت إمكان استخدام تلك الأسلحة، وأبرمت الحكومات مجموعة منوعة من الاتفاقيات الدولية عن وقف انتشار السلاح النووي، وتكفلت بالإبقاء على عدد الدول المسلحة نووياً ضمن الحد الأدنى، وكونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أنظمة عدة، شملت الاتفاقيات وبالبروتوكولات عن التحكم والقيادة وخطوط اتصال ساخنة بهدف خفض فرص حدوث سوء فهم قد يوصل إلى حرب فناء.
ولكن في ما يتعلق بالأسلحة البيولوجية، لم تنجح معادلة الردع التي سادت في "الحرب الباردة"، إذ يعتمد مفهوم التدمير المضمون المتبادل على الخوف الذي انتشر بغزارة في الحقبة النووية، لكنه ليس سائداً بشأن صراعات الأسلحة البيولوجية. وفي الوقت الحالي، يعتمد الخطر على استمرارية التقدم التكنولوجي المتسارع بصورة لاهثة مع ابتكارات غير مسبوقة، مما يصعب على الناس فهم الأبعاد الكاملة للأخطار.
على النقيض من القصف النووي في هيروشيما وناغازاكي، لم يحز أي هجوم بيولوجي مكانة الحدث العالمي الشامل التاريخي الذي من شأنه جلب اهتمام مستمر ودائم. ويعتمد مفهوم التدمير المضمون المتبادل على قدرة الدول على التعرف على المهاجم. وفي حال الأسلحة النووية يسهل فعل ذلك، في حين قد تطلق دول أسلحة بيولوجية وتتفادى الانكشاف، وبالتالي تتفادى الرد الانتقامي أيضاً. وتستطيع حكومة ما أن تطلق بسرية فيروساً خطراً ثم تنحو باللائمة على أي عدد من الدول الاخرى، أو حتى مجموعات متمردة. وربما تتمكن الأخيرة فعلياً من إطلاق أمراض قاتلة، وهي حقيقة تكفل جعل مفهوم التدمير المؤكد المتبادل عنصر كبح أقل فاعلية وأدنى فائدة، حيث لا ترغب أي حكومة بالمخاطرة بإفناء بلدها، لكن إرهابيين كثرا لا يعيرون البقاء أدنى اهتمام، وقد بات بمقدورهم الوصول إلى المواد والمعدات والمعرفة والقدرات التقنية اللازمة لصنع أسلحة بيولوجية.
في العام 1969، حذر جوشوا ليدربرغ من تداعيات الانتشار غير المنضبط للأسلحة النووية تشبه "توفر القنابل الهيدروجينية في السوبر ماركت". ويكتظ عالم 2024 بمحال السوبر ماركت مع إمدادات متراكمة من مواد صنع القنابل البيولوجية.
ولأن نموذج الردع على طريقة "الحرب الباردة" يصعب اتباعه، فقد يتطلب الوضع الراهن فلسفة من نوع آخر تتضمن أن المسار المفضي إلى الردع لا يكمن في القدرة على رد الضربة، وإنما يقتضي بدلا من ذلك دفاعاً فائق المتانة إلى حد يجعل من الهجمات البيولوجية عديمة القيمة.
ثمة نموذج تاريخي عن الطريقة التي تستطيع بها المجتمعات إبطال نجاعة الأسلحة البيولوجية يتمثل في نهاية النيران الحضرية الكبرى. في معظم التاريخ المدون، دُمرت مدن العالم باندلاع نيران كبرى وكثيفة التهمت بصورة دورية أساساتها، وفي القرن الـ19، حدث انخفاض دراماتيكي في تلك النيران، وهو ما جاء بصورة جزئية نتيجة تطوير أنظمة استجابة أفضل، على غرار القوات المتخصصة في مكافحة الحرائق ونشر مصبات إطفاء الحرائق. وفي جزئه الأكبر، حدث ذلك الانخفاض بدفع من إجراءات متواضعة شملت إدخال مواد بناء أكثر مقاومة للنار، وفرض معايير هندسية ومنظومة قوانين محددة في البناء، ووضع شروط معينة لعقود ضمان المسؤولية المالية.
أدت تلك الإجراءات إلى تثبيط السلوك المغامر. وحينما صاغت الدول تعريفات أكثر دقة عن الإهمال، مما سهل رفع دعاوى مدنية في شأن حوادث الحرائق، أضحى الناس أكثر حذراً.
تستطيع الحكومات اليوم أن تأخذ صفحة من كتاب تلك التجربة بعد أن أنشأت أقساماً للحرائق والإطفاء كي تستجيب للنيران الحضرية. والآن، تحتاج الحكومات إلى إرساء أنظمة تستطيع العمل بسرعة على تطوير لقاحات وأدوية مضادة للفيروسات والأشكال الأخرى من التدخلات الطبية. ولكن كما هو الحال مع النيران الحضرية الكبرى، يجب على الحكومات فهم أن الاستجابات السريعة لن تكون كافية. يستطيع العالَم، بل يجب عليه، أن يطور القدرة على تلقيح سكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة خلال 100 يوم من لحظة تفشي المرض؛ أي أسرع من الوقت الذي استغرقته الحكومة الأميركية لتلقيح 100 مليون شخص ضد "كوفيد 19" بصورة كاملة.
على الرغم من ذلك، لن تكفي هذه الاستجابة السريعة لمواجهة مرض ينتشر بمثل السرعة التي انتشر بها "أوميكرون"، وهو نوع متحور من فيروس كورونا.
ويضاف إلى ذلك أن صناع السياسة ملزمون باتخاذ خطوات مشابهة لما فعلوه حين أرسوا منظومة قوانين محددة في البناء، بمعنى اتخاذ خطوات من شأنها إعاقة انتشار الأمراض. وباستطاعتهم البدء من إنشاء مخزونات أكبر من معدات الوقاية الشخصية، حيث تلعب الكمامات والقفازات وأجهزة التنفس دوراً محورياً في وقف انتقال الفيروس بين البشر، وبالتالي يجب على المسؤولين توقيع عقود تمهيدية لمثل تلك المعدات. ويجب على الدول أيضاً أن تدعم أساساتها الصناعية كي تغدو قادرة على رفع مستوى الإنتاج حينما تظهر حاجة إلى ذلك. كما يجب عليها توجيه المصنعين لإعادة تصميم معدات الوقاية الشخصية لتصبح أرخص وأشد فاعلية ومريحة أكثر. وتستطيع الحكومات تعزيز هذه المرونة في الاستجابة عبر ضمان حصول من يعملون في الخدمات الأساسية على وصول سريع بصورة خاصة إلى معدات الوقاية الشخصية. ويجب على الدول تزويد مباني ذلك القطاع بأنظمة تعقيم تعمل بالأشعة فوق البنفسجية البعيدة المضادة للميكروبات، بالإضافة إلى فلاتر متخصصة. وباجتماعها معاً، قد تتمكن هذه الإجراءات من إحداث خفض أساسي في خطر اندلاع موجات وبائية تتفاقم لتصل إلى حوادث اجتماعية مزلزلة.
خطوة بخطوة
ثمة طريق أخير لخفض خطر الكوارث البيولوجية يذهب أبعد من رسم مخططات عن الاستجابة والحماية. يجب على المسؤولين أن يتوصلوا إلى حوكمة أفضل للتقنيات الجديدة، وفي خاتمة المطاف، قد يشكل ذلك الطريق الفعلي الوحيد لمنع هجوم بيولوجي واسع النطاق.
هناك أدوات كثيرة تستطيع الحكومات استعمالها في سن تشريعات للتطورات التقنية. ولنقل مثلاً إن المسؤولين قد يمتنعون عن تمويل تجارب معينة، أو حتى أن يفرضوا حظراً مباشراً عليها. وقد يشترطون أن تحصل المنشآت البيولوجية والعاملون فيها على تراخيص قبل الشروع في أنواع معينة من الأعمال، وربما يتشددون في الإشراف مستقبلاً عن عمليات أتمتة المختبرات.
في المقابل، يجب على المسؤولين أن يعملوا على تشكيل بيئة عمل البحوث والتطوير في مجال البيولوجيا. يجب عليهم، مثلًا، وضع شرط على الشركات التي تبيع الأحماض النووية الوراثية والسلالات والمواد الفاعلة بيولوجياً وغيرها من معدات علوم الحياة المستخدمة في صنع عناصر بيولوجية، بأن تطبق قوانين مفهوم "اعرف زبونك" الذي يفرض على الشركات التثبت من هوية زبائنها وطبيعة النشاطات التي ينهضون بها. ويجب على الشركات أيضاً ضمان أن تشحن البضائع بصورة حصرية إلى جهات معروفة وشرعية. (منذ فترة طويلة، فرضت حكومات عدة على المؤسسات المالية اتباع قوانين مفهوم "اعرف زبونك" بهدف منع تدفق الأموال إلى شبكات إجرامية).
بالإضافة إلى ذلك، يفترض أن يصبح صناع السياسة قادرين على سن قوانين أفضل في ما يخص أساليب التصرف، ويجب على الحكومات أن تبتكر طرقاً جديدة لتقصي النشاطات البيولوجية الممنوعة، بما يمكّن قوى إنفاذ القانون ووكالات الاستخبارات من استباق الهجمات قبل حدوثها.
بداية من اليوم، تحتاج الحكومات إلى رسم سياساتها في الدفاع البيولوجي مع وضع الذكاء الاصطناعي نصب أعينها. الآن قبل إطلاق النماذج اللغوية الكبرى للذكاء الاصطناعي، تبتكر الشركات وتتبنى مجموعة من الضوابط على غرار وضع "خطوط حمراء" لا يستطيع المستخدم تخطيها. وعلى سبيل المثال، يرفض برنامجا "تشات جي بي تي 4" و"كلود سونت 3.5" إعطاء إجابات عن كيفية تطوير فيروس يقتل الحيوانات الداجنة. وإذا طلب المستخدم توجيهات تقنية عن كيفية الدخول في صنع مثل ذلك التطوير الموجه، بمعنى تحويل فيروس عادي إلى آخر يستطيع الفتك بالحيوانات الداجنة، من دون استخدام كلمة "قتل"، فإن النموذجين سيعطيان التوجيهات المناسبة، وبالتالي، تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعي إلى مزيد من الضوابط لتقيها من إعطاء معلومات خطرة. ويجب على الحكومات المساعدة في تكوين تلك الضوابط.
ليس من السهل خفض الأخطار حينما تأتي من تلك التقنيات الجديدة. وقد تؤدي بعض ضوابط حوكمتها إلى إبطاء البحوث المشروعة، وبالتالي، يجب على صناع السياسة توخي الحذر حينما يفكرون في الضوابط والقيود. لكن الإشراف الحاذق هو أمر ضروري. والحقيقة هي أنه على الرغم من كل جوانبهما المضيئة، فإن الذكاء الاصطناعي والهندسة البيولوجية يحملان تهديدات هائلة، ويجب على المجتمعات والحكومات أن تقيم بنزاهة الفوائد، حاضراً ومستقبلاً، المتوخاة من تلك التطورات وموازنتها مع الأخطار التي يحتمل أن تتأتى منها.
وفي الأحوال كلها، يجب ألا ينتاب القنوط المسؤولين. ففي نهاية الأمر، نجح العالم في تجنب كوارث وجودية سابقة. وقد لا تشكل الحرب الباردة نموذجاً لكيفية التعامل مع التحديات الراهنة، لكن تاريخها يخبر أن المجتمعات تستطيع احتواء الابتكارات الخطرة. آنذاك، على غرار الوقت الراهن، واجه العالم ابتكارات من صنع الفكر الإنساني هددت الإنسانية بأسرها، وفي ذلك الوقت، لم تستطع الدول إنهاء التقنيات الجديدة، لكن الحكومات نجحت في المقابل في تطوير مفاهيم وأنظمة استطاعت الحفاظ على الحد الأدنى.
وفق ما كتبه جون فون نيومان؛ عالم الرياضيات والفيزياء الذي ساعد في توجيه السياسة الأميركية النووية، فإنه "لا علاج للتقدم، وكل محاولة لإيجاد أقنية مأمونة بصورة أتوماتيكية حيال ما يشهده الحاضر من تنام انفجاري لأنواع من التطور والتقدم، محكوم عليها بالإخفاق. الطريق المأمون الوحيد نسبي، ويكمن في الممارسة اليومية الحاذقة للحكم على الأمور".
سيتمثل التحدي الأبرز الذي سيحدد القرن الحادي والعشرين في إمكانية تمكن العالم من العيش مع ظهور هذه التقنيات الجديدة التي تعد بأن تغير الحضارة. وعلى غرار ما حصل مع الطاقة النووية، فإن تلك التقنيات هي نتاجات بحوث يجريها بشر. وعلى غرار الطاقة النووية، ليست هناك طريقة تنفع في إعادة تلك التقنيات إلى الوراء. وفي المقابل، لن يستطيع المجتمع درء الخطر الأسوأ عبر الممارسة اليومية الحكيمة في الحكم على الأمور. وبحسب فون نيومان، "ليس من المنطقي أن نطلب وصفة جاهزة كاملة لما سيحصل تالياً، لكننا نستطيع تحديد المواصفات النوعية المطلوبة التي تتمثل بالصبر، والمرونة، والذكاء".
*روجر برنت: أستاذ العلوم في "مركز فرد هاتشنسون للسرطان". *ت. غريغ ماك كلفي جونيور: باحث بارز في السياسات الطبية ومستشار في "مركز مزلسون" و"مركز سياسات التكنولوجيا والأمن" في "مؤسسة راند" البحثية. *جيسون ماثني: رئيس "مؤسسة راند" البحثية ومديرها التنفيذي. مترجم عن "فورين أفيرز"، عدد أيلول (سبتمبر)/ تشرين الأول (أكتوبر) 2024.