"غالب هلسا: ذكرى مثقف".. ندوة تسلط الضوء على إرثه الأدبي
الغد-عزيزة علي
الزرقاء- بمناسبة ذكرى وفاة الروائي الأردني غالب هلسا، نظم نادي أسرة القلم الثقافي ندوة بعنوان "غالب هلسا: ذكرى مثقف"، تحدث فيها الدكتور محمد عبيد الله، وأدارها كاظم الحلحولي.
قال د. محمد عبيد الله: "إن غالب هلسا يعد رمزًا من رموز الثقافة العربية، وحرية الثقافة واستقلال المثقف. تميزت أعماله الأدبية والنقدية والفكرية بمكانة رفيعة نظرًا لقوة بصيرتها واختلافها فكريًا وفنيًا عن غيرها من الكتابات. كما أنها تعد ميدانا واسعا للتفكير في قضايا فكرية مهمة، مثل: التقدم، التغيير، الحرية، الكرامة، العدالة، الثورة، العلاقة بين التراث والمعاصرة، وغيرها من القيم والمشكلات التي كانت وما تزال تطمح إليها القوى الوطنية والتحررية في العصر العربي الحديث".
واستعرض عبيدالله مسار حياة هلسا وإبداعه، مستذكرًا أنه انطلق من قرية ماعين في مادبا حيث وُلد في 18 ديسمبر 1932، ثم خاض رحلة طويلة في الأماكن والأزمنة والجماعات والحركات المتنوعة. حيث نتأمل تأثيره ودوره الثقافي النوعي الجدلي في حله وترحاله، ويخطر في البال أنه كان أقرب إلى أن يكون "هبة الأردن" للثقافة العربية والإنسانية. هبة قدرية لم يخطط لها أحد، لكنها تركت أثراً فاعلاً ومستمرًا حتى اليوم.
وأشار عبيدالله إلى أن التركة التي تركها هلسا من أعمال أدبية ونقدية وفكرية تعد تركة ثمينة، وما تزال هذه الأعمال مصدرًا ثقافيًا مهمًا من موارد ثقافتنا العربية المعاصرة. فهي أعمال تتميز بروحها النقدية الجدلية، بما في ذلك أعماله الروائية. وهذا النوع من الإنتاج الأدبي له أهمية خاصة، لأنه يعلمك كيف تفكر، ويحثك على عدم تقبل الأفكار بسهولة ويسر إلا بعد نقاش عميق.
وأشار عبيدالله إلى أنه صدر لهلسا سبع روايات معروفة تقع في الطبقة الأولى من أعمال جيله، وما تزال تحتفظ بقوتها ومنطقها الإبداعي، حتى بعد مرور عقود طويلة على كتابتها ونشرها، وفي هذا البقاء والصمود ما يشهد على فرادتها وحياتها المتجددة. وهي الأعمال الآتية بحسب ترتيبها التاريخي: "الضحك، الخماسين، السؤال، البكاء على الأطلال، ثلاثة وجوه لبغداد، سلطانة، الروائيون". وله مجموعتان قصصيتان سبقتا تجربته الروائية هما: "وديع والقديسة ميلادة وآخرون، وزنوج وبدو وفلاحون". وله أعمال نقدية عدة، تمثل ممارساته النقدية التي لا تنفصل عن إبداعه، وقد ظهرت في كتب في حياته وبعد رحيله. وله إسهامات نوعية في الفكر، الفلسفة، الترجمة والكتابات السياسية.
ورأى عبيدالله أن هوية هلسا تعددت عناصرها الإنسانية والثقافية واغتنت بتجارب تجواله واغترابه الطويل في بلدان متعددة. ولعل "أردنيته"، التي انتمى إليها بحكم الميلاد والنشأة والأسرة، تقع في قلب هوياته المتعددة المتحولة. وقد ظلت هذه الهوية تتراءى له في مراحل حياته المختلفة، تظهر في شخصياته وخيوط ثقافتها وتكوينها. كما تجلت في شخصية بطل متكرر لا يبتعد عن شخصية غالب نفسه. وتجلت هذه الهوية أيضًا في مجموعتيه القصصيتين اللتين استوحتا البيئة الأردنية وقضاياها الاجتماعية والسياسية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. لكن تجليها الأوسع والأعمق كان في رواية "سلطانة"، التي يمكن النظر إليها بصفتها رواية أردنية محكمة، تمثل شخصية مؤلفها وهويته التي حملها طوال حياته.
أما الهوية الثانية في تكوين هلسا، فقد أوضح عبيدالله أنها "الهوية المصرية". فقد وصل هلسا إلى مصر شابًا طموحًا في منتصف خمسينيات القرن العشرين، وعاش فيها نحو 22 سنة متصلة. استكمل فيها تكوينه مع مجايليه من أدباء الخمسينات والستينات المصريين. وعومل في معظم الأحيان بوصفه مثقفًا وكاتبًا مصريًا، حيث عرف تفاصيل الثقافة المصرية وأتقن لهجتها. كتب رواياته بمشاركة شخصيات مصرية تتكلم في حواراتها باللهجة المصرية، التي تحمل معها ثقافتها وأصداء مجتمعها وطبقاتها المركبة.
أما الهوية الثالثة والمهمة في تكوين هلسا فهي "هويته الفلسطينية"، التي تداخلت مع تكوينه في الأردن، مصر، لبنان، سورية والعراق. ومن مظاهر هذه الهوية اقترابه من التنظيمات والحركات الفلسطينية في مرحلته المصرية، حيث كان عضوًا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين. وقد أدار ندوة الاتحاد عن المشروع الأميركي في المنطقة العام 1976، وانتهت تلك الندوة بإبعاده وطرده من مصر.
وأضاف عبيدالله أنه يمكن أن نتلمس المكون الفلسطيني في أعمال هلسا من خلال مؤشرات عدة، تتداخل لتكوين الصورة الكاملة للهوية الفلسطينية عند غالب، وانشغاله بفلسطين وتجلياتها الأدبية والثقافية والفكرية. من هذه المؤشرات اهتمامه بقراءة نماذج مهمة من الأدب الفلسطيني، ونقدها وتحليلها. ومن أبرز هذه الكتابات، مقالاته عن أعمال كتاب ومثقفين معروفين مثل: "جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، ماجد أبو شرار، غسان كنفاني وإميل توما". وتبدو قراءة هلسا لنتاجات هؤلاء الفلسطينيين قراءة عميقة تقوم على الكفاءة الفكرية والجمالية، والإحساس العميق بالقضية الفلسطينية وتفاعلاتها الأدبية والفكرية.
ثم تحدث عبيدالله عن اهتمام هلسا بـ"الأدب الصهيوني"، متبعًا خطى غسان كنفاني الذي كان من أوائل المثقفين الذين دعوا إلى قراءة هذا الأدب بوصفه أدبًا نقيضًا يساعدنا على فهم العدو، خصوصًا في المجال الأدبي الثقافي. بذلك تكون المواجهة مبنية على معرفة مباشرة، وليس على تصورات متخيلة. كما قضى هلسا العقد الأخير من حياته منتميًا إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، بانتماء حقيقي ومندمج مع هموم القضية الفلسطينية، وشارك في جدلها في بيروت ودمشق. وقد خرج مع الفلسطينيين من بيروت العام 1982، حتى استقر في دمشق، حيث واصل كتاباته وعلاقاته مع التنظيمات الفلسطينية التي استقرت هناك، وكتب في مطبوعاتها وشارك في نقاشاتها حتى رحيله.
ورأى عبيدالله أن هلسا كان من الكتاب المبكرين في دمج لمحات من سيرته الذاتية في رواياته. فليس مستغربا أن تحمل شخصيته الرئيسة اسم "غالب" في رواية "الخماسين"، ورواية "ثلاثة وجوه لبغداد". كما نجد تشابهًا بين شخصية المؤلف والبطل الروائي في بقية الروايات. وأوضح أن روايات هلسا اتسعت لنقد السلطة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والدينية، وصوّرت مشاهد طويلة للسجون السياسية في بيئات عربية متعددة، لتكون شاهدة على القمع وما ينشأ عنه من آثار في ظل الخوف والاستبداد.
وخلص عبيدالله إلى أن كتابات هلسا اهتمت بجماليات المكان إبداعًا ونقدًا وترجمة، حتى أصبحت فرعًا رئيسيًا من فروع الدراسة النقدية المعاصرة. ثم انتقلت من المجال الثقافي إلى المجال الأكاديمي، حيث كثرت الدراسات حولها حتى أصابها التنميط في صورة اضمحلال مبكر لمجال حيوي من مجالات الاهتمام الأدبي.