الغد
بعد الحرب العالمية الثانية، رحلت الاستعمارات الأوروبية المباشرة من المنطقة واستقلت الدول العربية حسب ترتيبات «سايكس-بيكو». لكنّ جزءًا واحدًا وحيدًا من الأراضي العربية واجه ترتيبًا مختلفًا: فلسطين. لم ينسحب الاستعمار البريطاني ويسلّم البلد لأهله، وإنما مهّد الطريق لتسليم مستعمرته في فلسطين إلى استعمار استيطاني إحلالي أسوأ بأشواط من الاستعمار التقليدي. ومنذ ذلك الحين، كانت الفكرة– المنطقية بشكل أساسي- هي أن حرية المنطقة لن تكتمل ما لم تتحرر فلسطين. وكانت هزائم العرب أمام الكيان الصهيوني العدواني وخسران المزيد من الأرض السبب في اضطراب النفسية العربية الجمعية. وبشكل أو آخر، ترتبت أقدار المنطقة حول هذا المركز.
Ad
Unmute
من جهة، تمت عسكرة العالم العربي وتخصيص الكثير من الموارد للحرب التي لم تُخض مع الكيان. كما ظهر نوع من الفرز بين الشعوب العربية التي ترى مصلحتها الإستراتيجية في زوال الكيان، والأنظمة التي استغلت مطالبة الحركات بحل القضية العربية المركزية بتحرير فلسطين لتأسيس أجهزة قمع رأت في هذه المطالبات مقدمات لتحرر الشعوب من سطوة النخب الحاكمة والمتحالفة وتأبيدها في السلطة. ومن جهة أخرى، أسست القوى الاستعمارية القديمة للوطن العربي، مصحوبة هذه المرة بالولايات المتحدة القوية، استمرار هيمنتها على إقليم العرب على أساس دعم المستعمرة الاستيطانية الصهيونية كقاعدة عسكرية متقدمة لإشاعة الفوضى والرعب في الإقليم.
لفترة من الزمن، كانت الفكرة الغالبة، ضمن مختلف التفاعلات في العالم العربي، هي أن تحرير فلسطين (بمعنى تفكيك المستعمرة الصهيونية) هو الهدف القومي والأخلاقي والديني والعملي لتحقيق استقرار المنطقة واستقلالها الحقيقي وإطلاق طاقاتها. وفي المقابل، كان العمل الدؤوب والماكر والمحسوب والمدعوم بالقوة الغاشمة لإحباط تحقيق هذا الهدف، بل لخلق أهداف ضيقة بديلة، قُطرية، على طريقة «أنا وبعدي الطوفان». وتم باستمرار تضييق المصالح المتصورة، الناجمة عن التوتير المتعمد للمجتمعات العربية، هبوطًا إلى الطائفة، والطبقة، والقبيلة، وتحريض صراعات على مختلف المستويات لتقسيم المقسم وصرف الأنظار عن حقيقة أن الجميع مستهدفون بالإخضاع والتبعية.
بالتدريج، تغيرت الفكرة عن مركزية فلسطين في حلم التحرر العربي. وأصبحنا نجد أنفسنا في وضع يُنظر فيه إلى النهج الذي يعبر عن معارضةٍ لسياسات الكيان التوسعية على أنه قوة مزعزعة للاستقرار في المنطقة. وبذلك، غالباً توصف البلدان أو المجموعات التي تقاوم هذه السياسات بأنها تهدد السلام الإقليمي. وقد أدى هذا إلى صعود نموذج سياسي يُعتبر فيه قمع المعارضة لهذا المشروع - سواء من خلال التدخلات العسكرية أو العقوبات أو التغييرات المنظمة للنظام - شرطاً مسبقاً ضرورياً للاستقرار. وكما رأينا بوضوح، تم دائمًا تبرير التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة والحروب بالوكالة الإقليمية بأنها جهود لإسقاط «الأنظمة المارقة» أو مكافحة الإرهاب. وفي الواقع، غالباً ما تستهدف هذه الجهود الدول أو الحركات التي ترفض الهيمنة الأميركية أو هيمنة الكيان الصهيوني.
لم تخرج التحولات السياسية التي شهدتها الدول العربية، وخاصة تلك التي يُنظَر إليها على أنها معارضة للمشروع الأميركي الإسرائيلي، عن هذا الإطار. وكان ما حدث فيها تجسيدًا لهذه الدينامية. فقد تم تأطير تغييرات الأنظمة أو الاضطرابات السياسية في دول مثل العراق وليبيا وسورية واليمن على أنها خطوات ضرورية نحو جلب الديمقراطية والاستقرار. ومع ذلك، تشير الفوضى العارمة الناتجة، والتفتت وفقدان السيادة في هذه الدول إلى أجندة مختلفة هدفها تفكيك المقاومة للنظام الذي يجري فرضه. ونادراً ما عالجت مثل هذه التدخلات الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار، وأدت غالبًا إلى تفاقم الانقسامات الطائفية والتدهور الاقتصادي والمعاناة الإنسانية.
كان حاصل جمع هذه الزلازل المتوالية والهدف من تحريكها في الأساس هو تغيير فكرة الشرق الأوسط ككل: بينما كان يُنظر إلى استعمار فلسطين على أنه السبب في توتير المنطقة وإحباط ازدهارها بحيث يجب تفكيك المستعمرة، أصبحت الفكرة التي طورتها عقود من المناورات الجيوسياسية، هي أن الشرق الأوسط سوف يستقر فقط إذا أقامت الدول العربية علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، ونسقت العمل الإقليمي مع الولايات المتحدة. بمعنى أن تحقيق الاستقرار والازدهار يتحقق فقط من خلال مواءمة الأنظمة السياسية والاقتصادية في المنطقة تحت سيادة محور أميركي – «إسرائيلي».
المعنى الضمني والظاهر لهذا التصور، استدلالًا بما يُقال ويُطبق هو استكمال الاستعمار الاستيطاني الإحلالي وشرعنته، حيث أن الشرط الوجودي لبقاء الكيان الصهيوني، بطبيعته، هو إنهاء شيء اسمه فلسطين وإخراج الفلسطينيين نهائيًا من التاريخ. ولا يحتاج هذا إلى اجتهاد. وقد أوضحت قيادة الكيان، بالأقوال والأفعال، أن هدفها هو إنهاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. وكان التطهير العرقي، متمثلًا في عمليات التهجير القسري، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، والحصار المستمر على غزة، أدوات لتحقيق هذا الهدف. ويكمل إخضاع الفلسطينيين المتبقين ــ من خلال سياسات الفصل العنصري المنهجية التي تحرمهم من الحقوق الأساسية ــ هذه الإستراتيجية. ويعطي قادة الكيان الأولوية علناً للهندسة الديموغرافية لضمان دولة ذات أغلبية يهودية في حين يعملون بنشاط على تفكيك أي إطار من شأنه أن يؤدي إلى تقرير المصير الفلسطيني.
لا بد أن تعني الموافقة على بقاء كيان بهذه المواصفات والإعلانات، بعدم معارضته، بل وتطبيعه، وتسهيل تنفيذ مخططاته الرامية إلى «تغيير خريطة الشرق الأوسط»، بالتأكيد لخدمة مصالحه وتسيد الإقليم، موافقة علنية على إنهاء القضية الفلسطينية مرة وإلى الأبد. ويجري العمل الآن علنًا، بمشاركة عربية غير مخفية، على تحقيق «الاستقرار» و»الازدهار» و»السلام» من خلال تطبيع الكيان بأهدافه الواضحة، والتحالف مع الولايات المتحدة، بأهدافها العلنية التي لا يمكن أن تريد خيرًا لمنطقة تسعى إلى الهيمنة عليها وتحطيم إرادة شعوبها.
ينبغي أن يكون هذا النهج معيبًا بشدة لدى فحصه بعدسة الحقائق التاريخية والمعاصرة. إن أي استقرار قائم على استمرار تجريد الفلسطينيين من حقوقهم وقمعهم هو مسعى هش بطبيعته ومفلس أخلاقياً. ليست القضية الفلسطينية مسألة صغيرة أو شجارًا في حانة يمكن تهميشه بلا عواقب؛ إنها محور مركزي تدور حوله فكرة التضامن العربي والشرعية. وتفشل المحاولات الرامية إلى تجاوز هذا الواقع - سواء من خلال اتفاقيات التطبيع أو من خلال فرض أجندة أميركية «إسرائيلية»- في معالجة المظالم والتطلعات عميقة الجذور للجماهير العربية، التي ترتبط قضيتها عضويًا بقضية فلسطين إلى حد تقرير نوع الأنظمة التي تحكمها وأيها يبقى وأيها يذهب.
كما أن من غير المنطقي الاعتقاد بأن «الاستقرار» في ظل نظام هيمنة الأميركان والكيان على أي مصالح للشعوب العربية. إن نموذج الهيمنة المطروح يعطي الأولوية للمصالح الجيوسياسية والاقتصادية لواشنطن والكيان، دائمًا على حساب الحكم الذاتي الإقليمي وتقرير المصير. ويفرض هذا النموذج التبعية الاقتصادية، ويعزز التفتت السياسي، ويقوّض سيادة الدول العربية. ويؤدي الدور المركزي المنوط بالكيان الإبادي العدواني المتغطرس في هذا الإطار إلى تفاقم التوترات فحسب، حيث تشكل سياسات الاحتلال والعدوان التي ينتهجها إهانة مباشرة للكرامة العربية والعدالة الإنسانية.
لقد أكدت الأمثلة الحديثة عجز الهيمنة الخارجية عن تحقيق الاستقرار الحقيقي. وأظهرت الغزوات الأميركية للعراق وأفغانستان، وتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، والحرب المطولة بالوكالة في سورية وما أنتجته، العواقب المدمرة للحلول المفروضة من الخارج. ولم تفشل هذه التدخلات في جلب الاستقرار فحسب، بل خلفت إرثاً من الدمار والتشريد والتطرف. كما لم تؤد هيمنة الكيان في المنطقة، التي تجلت في الحملات العسكرية المتكررة ضد غزة ولبنان وسورية، سوى إلى تعميق العداوات وتجديد دورات المقاومة.
لا يمكن أن يتحقق استقرار حقيقي في الشرق الأوسط من دون معالجة القضايا الجوهرية التي تكمن وراء الاضطرابات في المنطقة. ويتطلب تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار للشعوب العربية رفض النماذج القائمة على هيمنة الخارجيين أو قيادة كيان استعماري، التي تعطي الأولوية لمصالح القوى الخارجية على مصالح المنطقة. ويُفترض أن تسعى البلدان العربية إلى اجتراح إطار من التعاون والتكامل الإقليمي يمكّنها من معالجة التحديات المشتركة- التنمية الاقتصادية، والإصلاح السياسي، والأمن- بشروطها الخاصة.
أما الفكرة البديلة والمقبولة رسميًا إلى حد بعيد، والقائمة على أن الشرق الأوسط يمكنه تحقيق الاستقرار عبر التطبيع مع الكيان والاصطفاف مع الولايات المتحدة، فليست فقط غير واقعية، وإنما ظالمة وقاسية وغير أخلاقية ولا تجلب أي فوائد عملية. إنها تتجاهل العنف الهيكلي الذي يقوم عليه الكيان الصهيوني، والعواقب الأوسع للتدخل الأميركي، والتطلعات المشروعة للشعوب العربية إلى السيادة والعدالة. وسيصبح الاستقرار والازدهار في المنطقة أبعد منالًا باطراد طالما يُسعي إليهما ضمن إطار يكرّس الدونية والتبعية والهيمنة الخارجية. وسوف يتطلب تصور مستقبل عادل ومستدام للشرق الأوسط إعادة التفكير جذريًا في هذه النماذج، وإعادة النظر في الإجابة العملية التي يعلنها النظام العربي، بالعمل وليس القول، عن سؤال «فلسطين أم إسرائيل؟» الذي يعنون كل ما يجري في المنطقة حتى آخر تفصيل.