عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Feb-2020

ترمب وألم ما بعد الحقيقة - د. بشار نرش
الجزيرة - ليس من قبيل المصادفة أنّ يتبنّى معجمي أكسفورد الإنكليزي وويبستير الأمريكي مصطلح "ما بعد الحقيقة"، بعد فوز دونالد ترمب بالانتخابات الأمريكية، ويدرجانه ضمن قاموسهما كأحد المصطلحات اللغوية المعترف بها رسمياً، وليس من باب التجنّي السياسي أن تنشر العديد من الصحف الغربية مقالات عقب فوز دونالد ترمب بالانتخابات الأمريكية، تؤكد فيها على الدخول في عالم ما بعد الحقيقة.
 
هذا المصطلح الذي استخدم للمرة الأولى من قِبل الصحفي الأميركي ستيف تشيس في مجلة ذا نايشن، في عام 1992، حينما كتب في مقالة يتحدّث فيها عن بعض الفضائح السياسية الأميركية مثل ووتر جيت، وكونترا-إيران، ومستقبل السياسات الأميركية، لاقى رواجاً كبيراً في الأوساط الصحفية والأكاديمية الغربية بعد ذلك، الأمر الذي دفع معجمي أوكسفورد وويبستير، كما ذُكر سابقاً، لاختياره في 2016 كمصطلح العام، بسبب كثرة استخدامه وتسببه بجدل كبير في الأوساط الغربية، يُعرِّف معجم أكسفورد مصطلح ما بعد الحقيقة بأنّه الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيراً أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنةً بتأثير ما تفضّله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق العلمية.
 
فعالم ما بعد الحقيقة، كما تقول مجلة الإيكونومست، هو عالمٌ تراجع فيه دور الحقيقة في تشكيل الرأي العام، بحيث تسيطر الخطابات الشعبوية المتكئة على تأجيج العواطف والمخاوف على هذا العالم، أي أنّه يشير إلى ازدياد ميل الناس إلى تشكيل آرائهم وقناعاتهم، بناءً على المشاعر، أكثر منها على الحقائق، فيزداد رفض الناس لتقبّل الحقائق، وقبول المغالطات وحتى المفضوح منه، وخاصةً في ظل تنامي الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، والتي تعتبر طريقاً سريعاً وقصيراً لنقل معلومة أو رأي في اتجاه واحد ، من دون التحقق في صحّة المعلومة أو وجاهة الرأي، أو مقابلته بما يخالفه من أجل التوازن.
 
ترمب حسب العديد من المختصين يتحدّث بأسلوب شخصي متفرّد جاذب للجمهور العادي عبر أكثر الوسائط الإعلامية انتشاراً، والتي تساعده على تحييد الاحترافية السياسية والخوض في معركة ينتصر فيها الصوت العالي
ارتبط صعود مصطلح ما بعد الحقيقة، في الدوائر الصحفية والأكاديمية الغربية، بحدثين أساسيين هما فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتصويت البريطانيين بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوروبي(بريكسيت) عام 2016، وهما الحدثان اللذان ساد الانطباع بأنه شابهما توظيف كثيف للخطاب المشحون عاطفياً، والمجافي للواقع وللحقائق الموضوعية.
 
وللوقوف أكثر على هذا المصطلح وارتباطه اللصيق بدونالد ترامب، يمكن القول هنا أنّ دونالد ترمب يعتبر مثالاً حقيقياً عن الثورة التي يشهدها عالمنا المعاصر فيما يخص مقبولية الخطاب السياسي لدى المواطن العادي، والذي يتّسم بالشعبوية، وقدرته مع فريقه على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصةً منصة تويتر، لطرح الأفكار وتسويقها، والتي يمكن من خلالها تحريك الجماهير أو تضليلها أو حشدها.
 
حيث شاهدنا أثناء الحملة الانتخابية لدونالد ترمب والمنافسة المحمومة التي كانت بينه وبين هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الجمهوري، كيف أنّه والقائمين على حملته أحسنوا استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج لبرنامجهم الانتخابي، من خلال التعبئة والشحن العاطفي والتزام النزعة الشعبوية بدلاً من الحقائق والموضوعية والنزاهة، فكل ما كان يبثه ترمب وطاقم حملته من تغريدات وآراء على تويتر وفيسبوك وإنستغرام، كان يصل إلى الناخب الأبيض على الفور فيتلقاه وكأنّه حقيقة مسلّم بها، ولا يمكن الارتياب بصحتها، بينما تخلّف الديمقراطيون في حملة كلينتون في استشراف أهمية تلك الوسائل لكسب أصوات الناخبين.
 
وحتى بعد تسلمه الرئاسة حافظ ترمب على التزامه الجاد بالشعبوية، وحافظ على نفس خطابه الذي اعتاد عليه قبل وصوله للبيت الأبيض، والذي أمعن كثيراً في كسر الحدود التي تعود عليها السياسيون، وخاصةً فيما يتعلق باستخدام منصة تويتر التي أصبحت فيما بعد أداة من أدوات الحكم في البيت الأبيض ووسيلة مفضّلة لدى ترمب للإعلان عن كثير من موقفه وآرائه وقرارته، والتي مكنت ترمب من امتلاك قاعدة صلبة من المؤيدين، أو يمكن القول من المريدين، (أكثر من 71 مليون متابع على تويتر)، مع إمكانية ضم المزيد كلما ازدادت حدّة الاستقطاب السياسي.
 
وهذه النقطة بالذات، تعتبر حسب جورج سوريال كبير مستشاري منظمة ترامب، وصاحب كتاب الصفقة الحقيقية، أحد الأسباب التي أدّت إلى فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، حيث أشار سوريال إلى أنّ "منصة تويتر هي أحد الأشياء التي جعلت ترمب فريداً ومختلفاً كونها تتيح له التواصل مباشرةً مع الناس، بدون عوائق، قد يقول بعض الأشياء غير التقليدية ولكن الناس يحبون ذلك ويتعلقون برسالته اليومية ".
 
فترمب حسب العديد من المختصين يتحدّث بأسلوب شخصي متفرّد جاذب للجمهور العادي عبر أكثر الوسائط الإعلامية انتشاراً، والتي تساعده على تحييد الاحترافية السياسية والخوض في معركة ينتصر فيها الصوت العالي، والذي يعتبر ترمب خبيراً للغاية فيها، كما أنّ رؤيته لمجريات الأحداث تتلخّص في اعتبار الأشياء على اختلافها غير حقيقية ما لم تكن في صالحه، أو مستجيبة لرؤيته للعالم، وحينما يُواجَه ترمب بأيٍّ من المعلومات المغلوطة التي روّجها فإنه يُعيدها ويقول إنّ الإعلام مزيّف.
 
لذا لا يمكن النظر إلى تجربة ترمب على أنّها سلبيّة أو سيئة بالكامل، فمصطلح ما بعد الحقيقة هنا ليس مرادفاً للكذب، وإنّما يرادف استعمال حقيقة جزئية أو معلومة مغلوطة لحجب حقائق أخرى أكثر أهمية وخطراً، وذلك بتوظيف ما تثيره الأولى من شحنات انفعالية قوية على الرأي العام، وخير مثال على ذلك تصريح دونالد ترمب بعد القصف الإيراني لقاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني، وحديثه عن عدم إصابة أي جندي أمريكي في القصف الإيراني، وبعدها بأيام يظهر تقرير أمريكي يتحدّث عن إصابة 50 جندي أمريكي، وهذا ما يجعلنا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، الذي تنمحي فيه المسافات بين الحقائق والوقائع والمزاعم والمغالطات والتضليل المتعمّد بهدف دعم توجّهات سياسية معينة في ظل الميل الشعبي المتصاعد لقبول مثل هذا العالم.