الغد-ربى الرياحي
لم تقتصر مواقع التواصل الاجتماعي على التعارف وتبادل الأخبار والمعلومات، ولا على استخدامها كمنابر جديدة للتعبير عن الأفكار والآراء ذات القيمة والأهمية، باعتبارها أداة تواصل سريعة ومتاحة للجميع، بل هناك من يحولها عمدا إلى ساحات حرب تشوه القيم وتؤذي الآخرين نفسيا وعاطفيا من خلال التعليقات السلبية التي يتبادلونها، وتحمل الكثير من السموم والتجريح.
استخدام هذه التعليقات كسلاح في حروب كلامية تفتقر إلى الأخلاق قد يجبر البعض في كثير من الأحيان على الكشف عن أسرار شخصية لا يحق لأحد الاطلاع عليها أو التحدث عنها. مثل هذه التعليقات قد تدفع بعض الأشخاص إلى الخروج إلى العلن والتحدث في أمور حساسة بهدف إيقاف الألسنة العابثة، وتوضيح حقائق قد تدمرهم داخليا لأنهم اضطروا لذلك.
التعليقات السلبية سم قاتل، كما تقول رندة جلال، التي تعبر عن ألمها الشديد من استقواء البعض بكلماتهم على أطفال أبرياء، لا ذنب لهم، من خلف الشاشات. هؤلاء يلقون بكل أفكارهم المسمومة وعقدهم النفسية على مرأى من الناس من دون أن يراعوا مشاعر من يؤذونهم بكلماتهم. وتلفت رندة إلى أنها تتأثر كثيرا عندما تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وتجد تعليقات جارحة تنتشر بلا مبرر، وأغلبها لا هدف لها سوى التجريح والإيذاء.
وتبين رندة أن ما يثير الدهشة هو أن القسوة لم تعد تعرف حدا، بل وصل الأمر إلى حد أن البعض يتفاخرون بها. ومن بين التعليقات المؤذية التي لم تستطع نسيانها، تعليق على إحدى صور الأطفال، موجه للأم: "ليش ابنك شكله غريب، مبين مش طبيعي؟"، مما دفع الأم للرد والكشف أن ابنها يعاني من مرض ما، رغم أن البوح بذلك كان أمرا صعبا عليها، إذ لم يكن سهلا أن تكشف أكثر ما يؤلمها لأشخاص لا تعرفهم ولا يهمهم وجعها. ومع ذلك، وجدت نفسها مضطرة للتبرير والدفاع عن طفولة ابنها من ألسنة لا ترحم.
تستنكر رندة جلال مثل هذه التعليقات، قائلة إن لكل شخص قصته الخاصة التي لا يعلم عنها أحد، ولذلك يجب على الجميع احترام خصوصيات الآخرين وتقدير آلامهم.
كما أن الشخصيات المشهورة لا تفلت من هذا النوع من التجريح؛ فهم الأكثر عرضة للتعليقات القاسية وغير الإنسانية لكونهم تحت الأضواء، وكل الأنظار تتجه إليهم. وفي هذا السياق، نجد العديد من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي يتسابقون في انتقادهم، واختراق خصوصياتهم، بل ويتطاولون عليهم بالشتم.
ومن بين هذه التعليقات المؤلمة، نجد عبارات تحتوي على تنمر واستهزاء، مثل تلك التي كتبت لأحد المشاهير بسبب وزنها الزائد. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدى إلى التطفل على أمور شخصية وحساسة، مثل السؤال المؤلم: "لماذا لم تنجبي بعد؟"، هذا السؤال أجبر زوجها على الرد والدفاع عنها، موضحا أنه هو السبب وراء تأخر الإنجاب، ولا علاقة لها بذلك. في الحقيقة، لم يكن مضطرا لتبرير أمر شخصي لا يخص أحدا سواه، لكن كثرة التعليقات الجارحة والأسئلة الخالية من أي إنسانية دفعته للكشف عن حقيقة لم يكن مضطرا لمشاركتها مع الناس لولا الهجوم الكبير على زوجته. هي تستنكر مثل هذه التعليقات، تقول إن لكل شخص قصته التي لا يعلم عنها أحد، ولذلك احترموا خصوصيات الآخرين وقدروا أوجاعهم.
توضح مدربة المهارات الحياتية نور العامري، أن التعليقات السلبية تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية للأفراد، وقد تصل إلى حد الإيذاء العاطفي. ويتضاعف هذا التأثير عندما يشعر الشخص بأنه مضطر للتبرير أو كشف أمور شخصية للدفاع عن نفسه أمام الجمهور.
ومن الأسباب التي تجعل هذه التعليقات مؤذية وتشجع على التبرير، الشعور بالمراقبة العامة؛ حيث تشعر التعليقات السلبية الشخص بأنه مستهدف أمام جمهور واسع، مما يزيد من الضغط عليه للرد أو التوضيح.
وتنوه إلى أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يبنون أحكامهم بناء على معلومات جزئية أو خاطئة، مما يدفع الشخص المستهدف إلى تبرير موقفه أو سلوكه، وفق العامري. كذلك يخشى الشخص أن تؤثر هذه التعليقات على صورته الاجتماعية أو المهنية، مما يجعله يضطر لكشف تفاصيل قد لا يرغب في مشاركتها. وأحيانا قد تؤدي التعليقات السلبية إلى حملات مضادة ضد الشخص، مما يزيد من الضغط عليه للتوضيح والدفاع عن نفسه.
ووفق العامري، فإن التبعات النفسية تشمل القلق والتوتر وفقدان الثقة بالنفس، بالإضافة إلى الشعور بالضعف أو الانكشاف. يمكن أن تكون لهذه التعليقات أهداف متعددة، وهي تختلف حسب نوايا الأشخاص الذين يكتبونها. والكثير من مستخدمي وسائل التواصل يبنون أحكامهم على معلومات جزئية أو خاطئة، ما يدفع الشخص المستهدف لتبرير موقفه أو سلوكه. وتبين العامري أن خوف الشخص من أن تؤثر هذه التعليقات على صورته الاجتماعية أو المهنية يدفعه لكشف تفاصيل قد لا يرغب بمشاركتها. وفي بعض الأحيان، قد تؤدي التعليقات السلبية إلى حملات ضد الشخص، ما يزيد من حدة الضغط عليه للتوضيح، فضلا عن القلق والتوتر وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالضعف أو الانكشاف. ويمكن أن تكون لها أهداف متعددة، وهي تختلف حسب نوايا الأشخاص الذين يكتبونها.
إلى ذلك، تكون التعليقات أحياناً وسيلة لإظهار التفوق الشخصي أو الحقد تجاه نجاح الآخرين. وهناك من يكتب تعليقات سلبية فقط لإيذاء الآخرين أو التسلية على حسابهم.
وتنصح العامري بالتجاهل أو الرد بهدوء إذا كان الرد ضروريا، فمن الأفضل أن يكون بطريقة عقلانية ومختصرة. ويمكن اللجوء إلى الأصدقاء أو الأسرة لتخفيف الضغط، وطلب المساعدة النفسية إذا كان التأثير كبيرا.
ويشير الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان إلى أن كثيرا من استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي تكون لأمور شخصية، متعلقة بالاهتمامات أو التسلية، بل وأحيانا تعد هدرا للوقت من دون هدف.
كما أن لوسائل التواصل فوائدها الكبيرة، فإن لها أضرارها المتعددة، وهذا يعتمد بالأساس على المستخدم ودرجة وعيه والوقت الذي يستنزفه.
فالبعض أصبح "مدمنا" لهذه الوسائل، وهي تشغل جل وقته حتى أثناء العمل الرسمي، فالهاتف لا يفارقه، وكثير من الأسر تنشغل بالهواتف الشخصية أثناء جلوسها تحت سقف واحد، بل وتتواصل من خلالها عبر التطبيقات المختلفة من دون أن تتواصل لفظيا مباشرة بالرغم من أنهم متجاورون وفي غرفة واحدة.
ويذهب سرحان إلى أن عشرات التعليقات من أشخاص ليسوا ذوي خبرة أو اختصاص، ولعل بعضهم يرغب بالتسلية. فهناك رجال يعلقون على أمور تخص النساء، ونساء أصبحن خبيرات بشؤون الرجال، وأطفال ومراهقون أصبحوا على درجة عالية في توجيه النقاش وكتابة تعليقات لا تراعي أبسط ضوابط الكتابة أو أخلاقياتها، ويتدخلون في أدق التفاصيل. فالخصوصية أراد لها صاحبها أن تكون مستباحة، ربما جهلا أو بحثا عن الشهرة أو كسبا للإعجابات وتسجيل عدد أكبر من المتابعين، وينسى أو يتناسى أنه هو من قلل من قيمة نفسه.
ووفق قول سرحان، ليس من الضروري أن يعلق الشخص على كل ما يقرأ أو يشاهد، خصوصا أن هدف البعض من النشر هو كسب أكبر عدد من التعليقات أو المشاهدات، فهو يعتبر ذلك نجاحا له بغض النظر عن فحوى أو مضمون هذه التعليقات. فكثير ممن ينشرون محتوى "أجوف" بل هادم للقيم أصبحوا مشهورين و"مؤثرين" في عرف السوشيال ميديا. "لذا، يجب أن يكون التعليق مدروسا وعند الضرورة، وفي الأمور التي تقع ضمن اختصاص الشخص أو خبرته، وألا يكون لمجرد التعليق أو تسجيل الحضور والإظهار للآخرين أنه متفاعل مع كل ما ينشر، ومن دون تدخل في خصوصيات الآخرين أو إحراجهم بالأسئلة أو طلب المعلومات أو استدراجهم للحديث عما لا يريدون"، بحسب سرحان.
وفي قضايا النقاش، يقول سرحان "إن البعض قد يعلق على تعليقات غيره بأسلوب لا يخلو من التجريح والاستهزاء. فاحترام الآخرين مهم حتى لو اختلفت معهم في الرأي ما دام الأمر في حدود وجهات النظر. فقد يتعمد البعض إثارة المشكلات بين أفراد بعينهم أو داخل أسرة أو مجتمع. فالحكمة تقتضي ألا ينجر العقلاء إلى هذه المتاهات. وقد يتعمد شخص أو مجموعة إلى "اغتيال شخصية" معروفة بسبب الغيرة أو الحسد أو موقف أو خلاف شخصي. فيجدون من الفضاء الإلكتروني مساحة مناسبة لتحقيق أهدافهم غير الأخلاقية".
وهنا، واجب الجميع التأكد من صحة المعلومة والتثبت من الخبر قبل تناقله أو نشره أو حتى إبداء الإعجاب به، عدا عن التعليق عليه، وفق سرحان، فخصوصيات الآخرين ليست مجالا للنقاش والتعليق. وأسرار البيوت ليست للنقل والتداول. والزلات والأخطاء والهفوات لا ينبغي أن تصبح مجالا للذم والتندر والتقليل من شأن صاحبها أو التهكم عليه. والموت والمرض وعثرات الحياة ليست مجالا للشماتة والتشفي، فهي تصيب الجميع وليس للإنسان سلطة عليها.