الغد
الثورة، أي ثورة، هي رفض للحتميات». لولا ثورة كوبيرنيكوس وغاليليو على حتميات الكنسية لظلت الأرض مركز الكون. ولولا غاندي لكانت الهند ما تزال درة التاج البريطاني. كل نظام اجتماعي أو سياسي يُضفي الشرعية على نفسه بادعاء الحتمية: الفقراء سيظلون فقراء؛ الإمبراطوريات أبدية؛ السلطة القائمة طبيعية والتسلسل الهرمي ضروري. وفي المقابل، تنشأ الثورة من إدراك أن غزل اليد البشرية يمكن أن تنقضه يد بشرية. إنها استرداد للإمكانية من الحتمية، وتحويل المُعطى إلى فعل إرادة. الثورة ليست انقلابا سياسيا فحسب، بل هي أيضا تحد ميتافيزيقي -إصرار على أن التاريخ مفتوح، وأنه ليس ثمة نظام، ولا هيمنة، ولا مصير نهائيا.
كل حركات إنهاء الاستعمار هي رفض للحتميات. دائما بررت القوى الاستعمارية هيمنتها بتقديمها على أنها طبيعية، دائمة، بل ومقدرة إلهيا: «عبء الرجل الأبيض»، أو «مهمة التمدين»، وعجز الشعوب المستعمرة المزعوم عن حكم نفسها. وقد فكك التحرر من الاستعمار هذه الأساطير وبرهن أن الإمبراطوريات ليست حتمية ولا أبدية. وكان ما أكدته الشعوب التي تحررت من الاستعمارات هو حقها في تصور مستقبلها أبعد من الهياكل التي فرضتها الإمبريالية. برفضها حتمية الخضوع، أكدت هذه الشعوب على الإمكانية الجذرية للتاريخ، وأن ما صُنع بالغزو يمكن نقضه بالمقاومة. كان إنهاء الاستعمار أكثر من عملية سياسية: كان ثورة معرفية وأخلاقية أعادت للبشرية قدرتها على الاختيار والإبداع وهدم العالم الذي أعلنه القمع ثابتًا.
تحتاج المقاومة إلى الذاكرة والخيال لمواجهة الحتميات المصنّعة. في النضالات المناهضة للاستعمار، تعيد هاتان الخاصيتان ما يسعى الاستعمار إلى إغلاقه: إمكانية وجود مستقبل بديل. بالإضافة إلى القوة المادية، توظف القوة المعرفية أيضاً –احتكار القدرة على تعريف الممكن، والواقعي، والمحتوم. وبتقديم الخضوع على أنه النظام الطبيعي للأشياء، تنتج هذه الأنظمة شللاً نفسياً لدى المُستَعمَر ليعتقد بأن المقاومة عبث. ولذلك، تعمل الذاكرة والخيال كقوى ثورية. الذاكرة تستعيد استمرارية وجود الشعب وتؤكد شرعية سرديته؛ والخيال يحمل استعادة هذا السرد إلى المستقبل، ويوقف «واقع» المُستعمر عن إملاء حدود الإمكانية.
في الحالة الفلسطينية، يشكل هذا الجدل بين الذاكرة والخيال أساسًا للاستمرارية. سعى الاستعمار الصهيوني إلى محو فلسطين جغرافياً ومعرفيًا لجعلها غيابًا: «أرضاً بلا شعب». لكنّ الذاكرة صمدت بحفظ أسماء القرى المدمرة وفي التاريخ الشفوي الذي ينتقل عبر الأجيال، والإصرار الثابت على حق العودة. في الخبرة الفلسطينية لا تعمل الذاكرة كفعل حنين بقدر ما تعمل كأرشيف سياسي يديم مطالبات الفلسطينيين الأخلاقية والوجودية بأرضهم. والخيال وسيلة للفلسطينيين للتسامي على حتمية اضطهادهم: قصة أن قوة الكيان، المدعومة بتواطؤ الغرب، لا تُقهر. ويفكر الفلسطيني بأن تصور التحرير «من النهر إلى البحر» ليس إنكارًا للواقع بقدر ما هو إعادة تشكيل له على أساس أن ما صُنع بالعنف يمكن تفكيكه أيضًا. وقد اجترحت الحركات المناهضة للاستعمار رؤى ووسائل حولت المستحيل إلى ممكن.
كانت المشاريع التحررية دائما في أساسها أفعال تخيل. وهي توجد في توتر مع «الواقعية» التي تديم النظام الاستعماري، التي تساوي بين القوة والديمومة. بذلك عنى التخيل تعرية الطابع الاحتمالي للامبراطورية: أن حكمها ليس أبدياً أو محتومًا، وأنه يستمر فقط بجهد أيديولوجي متواصل. ويصمد النضال الفلسطيني ويعبر الأجيال رغم التهجير والهزائم المتكررة، بالتحديد لأنه لم يسلم الخيال لليأس. كان كل فعل مقاومة، من حفظ اللهجات إلى إعادة غرس الزيتون المقتلع، فعل ذاكرة وخيال معًا. ظلت الذاكرة ترسخ النضال في الحقيقة، ودفعه الخيال إلى تصور الحرية ليشكّل الاثنان معاً أرقى أشكال المقاومة ضد الحتميات المصنعة للسلطة الاستعمارية.
في خبرة النضال الفلسطيني ضد الاستعمار، يبدو أن البعض فقدوا الذاكرة وقدرة التخيل وأصبحوا يروجون للحتمية بفعل الإجهاد. من النكبة التي شهدت التهجير الجماعي، مروراً بالنكسة والهزائم العسكرية، ووصولاً إلى فظائع مجزرة غزة الحالية، كانت ذاكرة الفلسطيني وخيالهم تحت الهجوم الدائم، بطريقة صنعت عبئاً نفسياً تراكمياً يمكن أن يجعل استمرار الوعي التاريخي والتفكير المستقبلي يبدو ممضًا لا يُطاق. ويظهر الإجهاد كنوع من اختزال الزمن: يضغط الماضي المؤلم والحاضر المليء بالصراع والمستقبل المجهول على العقل، فيصبح تذكّر التاريخ أو تخيله ترفًا لا يمكن تحمله. ومع ذلك، حتى تحت هذا الضغط، لا تعني لحظات النسيان أو انقطاع الخيال نهاية المقاومة بقدر ما تعكس حدود القدرة الإنسانية على التحمل تحت وطأة الاستعمار المستمر.
هكذا تصبح المحافظة على الثقافة والسرد الجماعي والحكايات المشتركة بالغة الأهمية: إنها تحمل الذاكرة والخيال في فترات الإنهاك، وتضمن أنه حتى عندما يتعثر الأفراد، يحتفظ المجتمع كله بالأدوات اللازمة لتصور التحرر. وفي هذا الوقت الفلسطيني الصعب يشكل الإجهاد تحديًا واختبارًا: إنهما يشخصان مرونة النضال وقدرته على التحمل، حيث نجاة الذاكرة والخيال، رغم محدوديات الإنسان، هما اللذان يديمان الإمكانية لتحقق مستقبل بلا استعمار.