الدستور
لم تكن الأيام التي تلت الانتخابات الأخيرة للكنيست مفاجئة لي باي شكل من الأشكال رغم ما شهدته وبوتيرة غير معهودة وغير مسبوقة من اهتمام سياسي وإعلامي وجماهيري ، بالقائمتين العربيتين الموحدة والمشتركة وخاصة الأولى، ، حتى أن المتتبع من بعيد لمدى الاهتمام الإعلامي والسياسي والجماهيري في البلاد بالقائمتين المذكورتين يكاد يعتقد لأول وهلة ان الحديث يدور عن اكبر قائمتين في البرلمان، يدور حولهما سيل من التحليلات والتقييمات ، تشكل نقيض ما كان سائداً بين العاملين والناشطين والمسؤولين في ميادين الإعلام والسياسة في إسرائيل الذين اعتادوا منذ قيام الدولة وحتى اليوم تقديم سردية أو سيرة واضحة متكاملة مبنية على أولويات سياسية وإعلامية وأخرى قاطعة وواضحة تكون فيها الأسبقية للمجتمع اليهودي الإسرائيلي ويكون فيها الاستثناء والتجاهل والإقصاء للمجتمع العربي.
لم يكن سيل التحليلات وسيل الضيوف العرب غير المسبوق في استوديوهات التلفزة المختلفة ومن على موجات الأثير وعلى صفحات الصحف ومواقع الانترنت الإخبارية، واللقاءات المتكررة باللغة العبرية مع د. منصور عباس خاصة، حدثاً عابراً او نزوة لمحرري الأخبار والبرامج السياسية كما انها وبغض النظر عن الحكومة التي سيتم تشكيلها من عدمه وبغض النظر عن هوية رئيسها او الانتخابات القادمة ليست سحابة صيف عما قريب ستنقشع بل أنها أعمق من ذلك واهم من ذلك، وإلا ما كانت تحتل هذا الحيز، خاصة وأن التمثيل العربي في البرلمان قد انخفض عدداً وبنحو الثلث لكنه ازداد وزناً حتى ان العرب عامة والموحدة خاصة اصبحوا ليس فقط بيضة القبان في تشكيل الحكومة القادمة ، بل أنهم أصبحوا وبخلاف ما كان في السابق لاعباً شرعياً في الساحة البرلمانية يحق له المشاركة في الحسم الديمقراطي وهو امر تم، إن شئنا ام ابينا بفضل مغازلة نتنياهو للمواطنين العرب وإعلان عدد من مقربيه ان الموحدة برئاسة الدكتور منصور عباس شريك مقبول في تشكيل الحكومة والائتلاف ، بعد عقود كان العرب فيها العامل المنبوذ في اسوا الحالات والداعم الخجول من الخارج في افضلها والعدو اللدود في بعضها خاصة منذ تولى بنيامين نتنياهو واليمين مقاليد الحكم مطلع الألفية الحالية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد ولم يكن الاهتمام عددياً فقط، بل رافقه تغيير واضح في التوجه السياسي والإعلامي يعكس تغييراً واضحاً ومباركاً، بغض النظر عن دوافعه ومنابعه واسبابه، وهي أسباب سياسية واضحة، ففي السياسة ، كما قال وينستون تشرتشل، ليس هناك عدو دائم او صديق دائم بل هناك مصالح دائمة، وبالتالي كانت المصالح السياسية لبنيامين نتنياهو مثلاً مبرراً لشرعنة القائمة الموحدة كما جاء على لسان مقربيه من السياسيين وجوقته من الإعلاميين ومنهم شمعون ريكلين ويعقوب بردوغو وكارولين غليك ،حيث دعت الأخيرة رئيس الوزراء والليكود الى «العمل مع الدكتور منصور عباس والتعاون معه وذلك تجسيداً للمبادىء التي تأسست وفقها اتفاقيات السلام الإبراهيمي ( اتفاقيات السلام مع الإمارات والبحرين التي صوت ضدها كافة أعضاء الكنيست العرب وبضمنهم د. منصور عباس) وتطبيقها على علاقة دولة إسرائيل بمواطنيها العرب»، رغم اعلان النائبين عن اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير انهما لن يدعما أي حكومة يدعمها منصور عباس فعلياً او شكلياً ، علناً او تلميحاً، وهي شرعنة لإمكانية دمج النواب العرب كلهم او بعضهم في الائتلاف الحكومي وحتى في الحكومة كما جاء في ما نشرته صحيفة « الجريدة» الكويتية حول عرض نتنياهو مناصب وزارية على النائبين أحمد الطيبي وأسامة السعدي مقابل انضمامهم الى حكومته وانشقاقهم عن المشتركة وهو ما نفاه الإثنان، وهي شرعنة دفعت بالمنافس يائير لبيد الى الإعلان وعلى رؤوس الأشهاد ان النواب العرب جزء شرعي من أي ائتلاف سيشكله ولذلك سارع الى لقاء الدكتور منصور عباس قبل غيره وحتى قبل بيني غانتس .
وفوق كل ما سبق وقبله، تزامن وتوازى سيل تغطية الاحزاب العربية ومعظمه خصص للقائمة الموحدة والنقاش حول شرعنتها من قبل نتنياهو واحتمالات نجاحه في تذليل معارضة حلفائه من اليمين المتطرف المتدين يضاف اليهم نفتالي بينيت وحزب «يمينا»، مع الحديث عن الأزمة السياسية التي تعانيها اسرائيل والطريق المسدود برلمانياً وحزبياً وسياسياً واقتصادياً وصحياً الذي تواجهه البلاد بعد اربع انتخابات دارت كلها بين « نعم بيبي ولا بيبي» وانتهت كلها دون حسم اذا ما تجاهلنا نتائج الانتخابات الثالثة التي امكن لبيني غانتس فيها تشكيل حكومة بدعم النواب العرب لو تحلى بالشجاعة اللازمة والمطلوبة من القائد الذي يقاس بما يفعله لإحداث التغيير فالقائد يجب ان يقود لكن غانتس فضَّل أن يُقاد وان يخضع لضغوط نتنياهو وان يتخلى عن « أسلحته» السياسية واولها حينها تغيير رئيس الكنيست وسن قوانين تعكس الأغلبية البرلمانية ضد نتنياهو مستعيضاً عنها بالإنضمام الى حكومة التناوب التي كان اتفاقها الائتلافية بمثابة شهادة وفاتها في نفس الوقت، مع الإشارة الى ان للتزامن هذا دلالاته واهميته وكان لسان حال كافة العارفين والمراقبين والسياسيين بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقفهم يدركون حق الإدراك ويعرفون حق المعرفة ان النواب العرب عامة والقائمة الموحدة خاصة هم/ هي المنقذ الوحيد لإسرائيل من أزمتها السياسية والائتلافية، وليس ذلك فقط بل رافقها عض على النواجذ او عض الأصابع ندماً على ما فات وما حدث بعد الانتخابات الثالثة واعترافاً من الجميع بمن فيهم غانتس ( لا لإئتلاف مع المشتركة) ولبيد( زوعبيز) ان النواب العربي كانوا حينها ايضاً المخلص والمنقذ الوحيد لإسرائيل من ازمتها والوسيلة الوحيدة لإخراجها من الطريق المسدود ومن أزماتها المترتبة عليه ، لكن تم تجاهلهم.
ولكن لا تكرهوا شيئاً لعله خير لكم، ورب ضارة نافعة، فقد انتهت حكومة التناوب الى ضياع وتفكك والى انتخابات رابعة تيمن بها نتنياهو نصراً مبيناً بفعل التطعيمات واتفاقيات السلام مع الدول العربية، وهي انتخابات كنت قد اكدت قبلها مراراً وتكراراً انها ورغم ما رافقها من انشقاق مؤسف وخطير للمشتركة (سأعود لاحقاً للتطرق اليه والى ابعاده المستقبلية) تحمل بشرى جيدة واحدة هي ان اليمين الذي اعتاد « تعيير» اليسار والمركز بأنهم يريدون حكومة بدعم العرب تشكل خطراً على امن وكيان ويهودية اسرائيل ، هو نفس اليمين الذي قرر قبيل الانتخابات بأشهر وخلالها وبعدها ان يشرعن المواطنين العرب واعتبارهم « اصواتاً شرعية» وليس عدواً ، وان يشرعن القائمة الموحدة ويعتبر التعاون معها مقبولاً بصفتها تقترح نهجاً جديداً يتحدث عن الحقوق اليومية ويعتبر في عرف الليكود « أقل تطرفاً من المشتركة»، وبالتالي لم يعد بإمكان الليكود ان يتهم الغير وان يهاجمهم اذا قلدوا ما يفعله هو في هذا السياق ولو من باب « لا تنهى عن خلق وتأتي بمثله ، عارٌ عليك إذا فعلت عظيم» او تيمناً بقول نلسون مانديلا محرر جنوب افريقيا من نظام الابارتهايد:» لصنع السلام مع عدو، لا بد من العمل مع العدو، وهذا العدو يصبح شريكا «.
ربما كانت رمية من غير رامٍ، ويقيناً ان نتنياهو لم يكن يقصد إضفاء الشرعية على الموحدة من منطلقات ديمقراطية ومن باب الرغبة في المساواة وإشراك العرب في الحياة السياسية، فهو عراب «قانون القومية» والدافع الى «قانون كمينيتس» وهو من كتب في حساب حزبه على الفيسبوك ان « العرب يريدون القضاء على إسرائيل وقتل النساء والأطفال وحذَّر من تدفقهم الى صناديق الإقتراع، لكنه أراد تفكيكهم فمكنوه من ذلك وادوا بأنفسهم الى خفض تمثيلهم ، كما انه « شرعن التعامل مع الدكتور منصور عباس» وكله ثقة انه لن يكون بحاجة الى دعم العرب بل انه سيشكل حكومة « يمين مئة بالمئة» ، ولكن جرت الرياح بما لا يشتهي نتنياهو واعوانه وانتهت الانتخابات كما نعرف الى كتلتين متساويتين لا إمكانية لأي منهما لتشكيل الحكومة ، ليصبح النواب الأربعة في الموحدة « ليس فقط بيضة القبان بل المنقذ الذي يخطب الجميع وده بعد ان كان منبوذاً حتى قبل حين، كما أصبحوا السبيل الوحيد الى انتشال إسرائيل من ازماتها المختلفة عبر انتشالها من شللها السياسي والانتخابي والاقتصادي والإنساني وإنقاذها من براثن الكراهية الداخلية بين اليمين واليسار وتخليصها من حالة تقترب فيها من صدام خطير بين « جيش نتنياهو الذي يقدسه ويمجده ويعتبره منقذ وحامي البلاد والعباد « وبين «جيش لا لنتنياهو الذي يعتبره خطراً على البلاد والعباد ورمز للفساد» .
« من كان يحيا بمحاربة عدو ما، تصبح له مصلحة في الابقاء على هذا العدو حياً» هذا ما قاله الفيلسوف نيتشه، وهذا ما أراد نتنياهو واليمين فعله عبر إبقاء التمثيل العربي على قيد الحياة ولكن ضعيفاً لا وزن له ولا تأثير فجاء العكس، فلا حكومة لنتنياهو دون الموحدة ولا حكومة للبيد دون العرب الذين تمت شرعنتهم من قبل نتنياهو وجوقة مؤيديه، الذين ما زلوا يؤمنون ان العدو الذي يقع يمكنه أن يعاود الوقوف، أما العدو الذي تم إرضاؤه فقد تمت هزيمته حقاً، تماماً كما كان مصير بيني غانتس العدو الذي تم ارضاؤه فتمت هزيمته نهائياً، وبالتالي وبما ان السياسة كما في السياسة خاصة اذا كان نتنياهو واليمين المتطرف أكثر او أقل هو خصمك، تتطلب الحذر والاستعداد وإعداد السيناريوهات المختلفة والمتنوعة لمواجهة الموقف الواحد تجنباً للوقوع في شرك الآخرين عملاً بالقول الشهير « إن أعظم انتصار وأنجحه هو في إرغام العدو على التخلي عن مشروعاته وخططه , بدون أن يتحمل الطرف الآخر أي أذى» ، على القائمتين العربيتين الإسراع في استخلاص العبر ومحاسبة الذات فما حدث من انقسام وتشرذم جاءت نتائجه واضحة وخطيرة اللهم باستثناء شرعنة المشاركة السياسية العربية.
المطلوب من القائمتين الموحدة والمشتركة اليوم إعادة ترتيب الأوراق وعدم الاكتفاء بان يكونوا « عجلة احتياط» او « عجلة إنقاذ» لهذه الحكومة او تلك او لهذا المرشح او ذاك وان لا يكتفوا بالدعم من الخارج او بالمشاركة الخجولة فليس هناك انصاف حلول بل ان انصاف الحلول عادة ما تكون أسوا من المشكلة ذاتها كما ان « نصف الحقيقة هي اسوا أنواع الكذب» ، وبالتالي عليهما الإصرار على المشاركة التامة في العملية السياسية والبرلمانية والمشاركة في الائتلاف وتولي المناصب الوزارية التي تُعني بقضايا المواطنين العرب الحياتية واليومية التي اثبتت نتائج ومجريات الانتخابات الأخيرة انها الهم ألأول والاهتمام ألأول للمواطن العربي كوقف آفة العنف والعمل والمسكن والاقتصاد والتعليم والمساواة والانخراط التام في حياة الدولة دون تنازل عن الثوابت القومية والوطنية، وتحقيق ذلك يتم اولاً عبر تنسيق ضروري بين القائمتين حتى في مرحلة المشاورات لتشكيل الائتلاف ،وهذا دون التنازل من جانب المشتركة ، او دون ان تُعفي نفسها، من مراجعة ما حدث من انشقاق اولاً ومن انخفاض في تمثيل مركباتها الثلاثة ، الجبهة والتجمع والعربية للتغيير.
أربعة انتخابات هي الدليل على شلل البلاد ومنظوماتها السياسية وعلى الانقسام الذي سيتكرس حتى إذا جرت انتخابات خامسة، طالما نتنياهو قائم وموجود في الساحة السياسية ينتظر لبدء محاكته ويعمل على المماطلة املاً في الوصول الى انتخابات جديدة يليها تشكيل حكومة برئاسته وذلك قبل تشرين الثاني 2021 وهو موعد الإعلان عن بيني غانتس رئيساً للحكومة وفقاً لبنود الاتفاق لحكومة التناوب ومن ثم الوصول الى آذار 2022 وهو موعد انتخاب المستشار القضائي القادم للحكومة ليعين مستشاراً على هواه يلغي لوائح الاتهام ويجعله مواطناً عادياَ لا تشوبه شائبة، كما انها الدليل على ان الأزمة التي تعيشها البلاد ليست سياسية فقط بل اقتصادية واجتماعية وإنسانية وامنية يحول عدم وجود ميزانية للدولة دون تحسين الاوضاع وهذا خطير امنياً إزاء التحديات التي تواجهها إسرائيل والتي قد تُغْري ربما بعض العناصر بمحاولة « امتحان قوة إسرائيل» على احدى الجبهات القريبة جغرافياً او البعيدة.
وللمسؤولين في القائمتين، المشتركة والموحدة، أقول ان عليهم العمل استعداداً للغد مع استخلاص عبر الماضي كما قال ناصيف اليازجي « دَعْ يومَ أمسِ وخُذْ في شأنِ يومِ غَدِ واعدِدْ لِنفسِك فيهَ أفضَلَ العُدَدِ» عبر الدمج التام والناجح بين استخلاص عبر ما كان والعمل الجاد على استغلال فرصة قد لا تتكرر، تم تفويتها ليس بجريرتهم بعد الانتخابات الثالثة، تتمثل في فرصة سانحة لدخولهم الحلبة الائتلافية والحكومية واحتلال وإشغال مواقع التأثير وصنع القرار كجزء لا يتجزأ من الحكومة وبمناصب وزارية، ناهيك عن ان الفرصة الحالية تشكل الامتحان الحقيقي او الكاشف الحقيقي عن وجه ووجهة الدولة باحزابها المختلفة فإن هي ، الدولة، وهم الاحزاب، قبلوا مشاركة العرب في اتخاذ وصنع وتنفيذ السياسات والقرارات فإنهم انقذوا بهذا إسرائيل وديمقراطيتها وعافيتها من شلل وتفكك وانقسام واستمرار التخبط في وحل المعسكرين المتوازنين اللذين يشل كل منهما حركة الاخر ويمنعه من الحركة، وإن هم رفضوا اثبتوا للقاصي والداني ان إسرائيل تدهورت نحو دولة « لليهود» فقط تتجاهل 22% من مواطنيها وتقصيهم ليس ممارسة سياسية فحسب بل عبر قوننةٍ وشرعنةٍ لإقصاء الأقلية العربية والتمييز والعنصرية ضدها.
ختاماُ فإن ما حدث مع القائمتين العربيتين وخاصة مع الموحدة يذكر بقول السيد المسيح الذي قال:» أما قرأتم قَط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية» ، وهنا موضع الامتحان، وفي ختامه يُكرَم المرء او يهان اما الاختبار الحقيقي فهو قدرة القائمتين المشتركة والموحدة على استغلال الوضع الحالي، والسياسة فن الممكن، للمشاركة في العمل السياسي الفعال كجزء من صناعة القرار وما يعنيه ذلك من دمج للمواطنين العرب في حياة الدولة ومنحهم الشرعية التامة والمساواة الدائمة، هي الفرصة السانحة فلا تفوتوها فالحياة لا تمنحُ الفرص إلا للراغبين ( تشي جيفارا) فهل فعلاً تريدون استغلال كل السبل والفرص لخدمة مجتمعكم ام انكم تدَّعون ذلك فقط!!!!