عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2025

غزة والتمدد الصهيوني في القرن الإفريقي*نادية سعدالدين

 الغد

تقف أبعاد أمنية وجيوسياسية جسيمة وراء اعتراف الكيان الصهيوني بما يسمى “أرض الصومال” كدولة مستقلة. فبه يستكمل حلقة تطويق منظومة القرن الإفريقي بعلاقات نافذة مع معظم دوله، متغلغلاً بين ثنايا موقعها ومواردها وأهميتها الإستراتيجية للأمن القومي العربي سبيلاً لتحقيق أهداف استعمارية تخدم مشروعه التوسعي بالمنطقة وتُعزز كفته المُحتلة في معادلة الصراع العربي – الصهيوني.
 
 
ولن يضر الاحتلال كثيراً انتهاك قرار “الاعتراف” المنفرد لمبادئ القانون الدولي، بعد خرقها لأكثر من عامين وسط صمت دولي، طالما وجد موقفاً أميركياً مُتهاوناً ومنسجماً مع مساعي إيجاد ساحات حاضنة لمخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ولاحقاً من الضفة الغربية، باعتباره ديدن المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي في فلسطين المحتلة والمنطقة.
ومما يلفت الانتباه أن علاقة الاحتلال بما يسمى “أرض الصومال” حديثة العهد بدأت رسمياً مع إعلان “الاعتراف” ولم تؤسس على إرث تاريخي طويل، كما علاقته بجنوب السودان قبيل انفصاله عن ساحة الوطن “الأم” أو بغيره من دول القارة التي ترسخت قديماً في الفكر الصهيوني، حينما تطلعت أنظار الساسة الصهاينة إليها منذ أواخر القرن التاسع عشر لتحويلها إلى “وطن يهودي”، وفق فلسفة الصهيونية “الإحلالية”، قبل أن يستقر بهم المقام في فلسطين. 
إلا أن تأطير العلاقة رسمياً الآن يرتبط بسياقات أكبر تتعلق بمخططات الاحتلال لاكتساب الشرعية المفقودة وكسر العزلة الدولية التي أطبقت عليه منذ حرب الإبادة الصهيونية ضد قطاع غزة، وإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي، وتعزيز حضوره القاري لحصد أكبر تأييد من الدول الإفريقية، حيث يحظى الصوت الإفريقي بثقل كبير في المؤتمرات والمحافل الدولية، ويشكل زهاء 31 بالمائة من مجموع الأصوات في الجمعية العمومية، ويعد أكبر تمثيل قاري في هيئة الأمم المتحدة.
يريد الاحتلال بهذا “الاعتراف” تطويق الدول العربية وحرمانها من أي نفوذ داخل القارة، واستغلال وتعميق الخلافات العربية مع بعض الدول الإفريقية، وتهديد أمن الدول العربية المعتمدة على نهر النيل، وبخاصة مصر، عبر مساعي “التغلغل” من بوابة “أرض الصومال” للأراضي الصومالية “الأم” باعتبارها دولة مصب للأنهار التي تنبع من حوض النيل رغم أنها لا تقع مباشرة على مجراه الرئيسي، في محاولة لتعميق نفوذه في تلك المنطقة، وإقامة مشروعات زراعية تعتمد على سحب المياه من بحيرة فكتوريا، مستغلاً العداء التاريخي بين إثيوبيا والعرب، لاسيما الخلاف المصري الإثيوبي القديم بسبب قضية السدود، مع إمكانيات التأثير في السياسة الأوغندية الصديقة لصالحه. 
ويُسهل “الاعتراف” مساعي الاحتلال لتعزيز وجوده في دول القرن الإفريقي التي تتحكم بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر وخليج عدن، وهو الطريق المائي الطبيعي لنقل نفط الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، بفتح منفذ حيوي صوب البحر الأحمر، الذي يحتل أهمية استراتيجية خاصة لدى الساسة الصهاينة، باعتباره جزءاً من دعاوى تاريخية واعتبارات أمنية كانت وراء إنشائهم ميناء أم الرشراش “إيلات”، مثلما شكلت سبباً بارزاً لنشوب عدواني 1956 و1967. 
ومن شأن ذلك تحقيق أهداف إستراتيجية للاحتلال؛ مثل توسيع وجوده العسكري وإيجاد عمق استراتيجي يتيح رصد أي نشاط عسكري عربي بالمنطقة، وكسر أي محاولة لحصار عربي ضد قواته وسفنه في البحر الأحمر، وتأمين الاتصال والأمن لخطوطه البحرية العسكرية والتجارية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط إلى آسيا وإفريقيا، والاحتفاظ بقوة بحرية وبرية وجوية في مواجهة الدول العربية، والاستمرار في تقوية ميناء “إيلات” كميناء حربي فضلاً عن كونه ميناء تجارياً، لضمان وجود المنفذ الذي أوجده لنفسه منذ عام 1949.
لا شك أن الأرضية الغارقة بالنزعات الانفصالية تشكل مدخلاً صهيونياً مُريحاً نحو “التفكيك” بعد السيطرة، في إطار ما يُسمى زوراً “الفوضى الخلاقة”، بهدف تغييب الهوية القومية وتفتيت التضامن العربي الإفريقي وإبعاده عن العمل الموحد، والبحث عن شقوق وتصدعات داخل الجسد العربي ومصالح آنية وضيقة مع بعض نخبه، للتغلغل منها نحو أهدافه الاستعمارية التوسعية في المنطقة.
وفي ظل غياب المنافسة العربية وتوفر الدعم الأميركي؛ فإن خطوة “الاعتراف” التي تُعد غطاءً لوجود قادم مشبوه بأهداف خطيرة، تعكس ما يعتقده الاحتلال بيده المُطلقة في الإقليم لاستباحة الأرض والدم والشعب، طالما ظلت المساءلة الدولية غائبة.