عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Oct-2020

أنا والترجمة والعيش في عالمين

 القدس العربي-ابتسام بركات

 أعيش في عالمين وفي لغتين – العربية والإنكليزية، إحداهما على السطر تسير من اليسار إلى اليمين والأخرى تسير من اليمين إلى اليسار. تصطدمان أحيانا وكأنهما في حرب، ولكن أحيانا كثيرة تقعان في غرام بعضهما. أكتب بالعربية والإنكليزية وأترجم بينهما. مع هذا الترحال المتواصل في اللغة أدركت أن ما يسمى الترجمة لا ينقل المعرفة كما هي، وإنما يقدم دعوة لتعلم اللغات الأخرى، لأن الترجمة ببساطة لا تفي الغرض الموكل إليها. الترجمة تشبه «النميمة»- لا تقول الحقيقة جميعها- وإنما تكتفي بأجزاء منها، وتحورها حسب قيم وقدرات المترجم والقارئ في اللغة المستقبلة للترجمة. العمل المترجم ابن أو ابنة للغتين وعالمين- الابنة والابن ليسا الأم – وليسا الأب – إن الولد كائن مستقل. لهذا قررت أن أكتب مباشرة في اللغتين، وأن اعتبر الترجمة لغة ثالثة – أكتب العربية من أجل بناء لغة صارت تتهدم مثل المباني ولا يعاد ترميمها.
العربية لها جذورها وقيمها وفكرها وآمالها وعقباتها وأمراضها. وهي لا تستفيد كثيرا من الترجمة اللغوية السطحية والمستعجلة، التي أراها في كل مكان حاليا في منشورات اللغة العربية، خصوصا حين تكون الكلمات المترجمة مثل «الدبش»، إن لم يعرف القارئ أصل الكلمة باللغة الأخرى لن يفهمها بالعربية، وسيحس بالغربة، وحين يعرفها باللغة الأصلية يضحك من الترجمة، ويشفق على من لا يعرفون الكلمة باللغة الأصلية. وأكتب بالإنكليزية وهي لغة لها قيمها وفكرها وتفاصيلها الخاصة بها.
وعبر فلاحة هذين العالمين لغويا، وجدت أن المهم هو ترجمة القيم الحضارية وليس الكلمات السطحية، ومعرفة مناطق جغرافية في اللغات، مناطق متقاربة مناخاتها، وبإمكان القارئ في اللغة المستقبلة أن يلمح نفسه في اللغة المرسِلة، يلمح ولا يرى تماما، ومع هذه اللمحة قد يتحفز للتعرف على عالم أبعد من عالمه،
وأن يغامر في رؤية العالم من وجهة نظر أخرى، وكل ما يترتب على ذلك من تغيير نفسه. الترجمة الحقيقية فن، والفن بحاجة إلى فلسفة، فهي الروح التي تمكن الفن من العيش ومن أن يدافع عن نفسه إذا اقتضى الأمر. أحد الامثلة التي غيرت فكري حول الترجمة اللغوية هي قراءة القرآن المترجم إلى الإنكليزية، الذي في رأيي قد ساهم في تدعيم كراهية المسلمين في الغرب «الإسلاموفوبيا» والذعر من الإسلام الذي يسود العالم ويؤجج الصراعات العنيفة. القرآن كتاب مليء بالقيم وترجمته إلى الإنكليزية فشلت في نقل هذه القيم، لأنها حاولت الالتزام بترجمة تفسير الكلمة فقط. وبما أن كل كلمة في اللغة العربية و»القرآن» لها احتمال عشرات التفسيرات، اضطر المترجم للقرآن من العربية إلى الإنكليزية مثلا،
إلى أن يختار تفسيرا من المتفق عليه – يترجمه – وبالتالي قام بإغلاق باب البحث في الكلمة الاصلية في الغرب، مثلما أغلق الباب في الشرق لأسباب قمعية ورثت عن أفكار ظالمة، أودت بالعرب إلى حال مترد من الأمية اللغوية والفكرية
والتوقف عن القراءة الإبداعية. وعبر الترجمة خسر النص المقدس أفقه الرحب المفتوح على التفاسير الكثيرة، والغنية التي تجعله مثل الماء يعكس بأمانة صورة كل من ينظر إليه، انها صورة حية تتغير مع كل تغيير، وليس صورة جامدة سجينة تعكس صورة واحدة بغض النظر عمن ينظر إليها، إنها كلمة «حية» تعكس «الحي» وتحاوره في حياته. فمثلا: تُرجمت كلمة «الرحمن» العربية إلى «موست ميرسيفل» الإنكليزية. وكلمة الرحيم العربية إلى «موست كمباشنت» الإنكليزية. من ينظر في جذور الكلمة العربية وجذور الكلمة الإنكليزية يرى أنه لا ترجمة مطلقا قد حدثت، الذي حدث هو سجن حقيقة الكلمة العربية والتقليل من قيمتها والإساءة لها في نظر الغرب.
 
الترجمة فخ حضاري إذا لجأنا لها على أنها أداة معرفة الحضارات الأخرى، إنها ليست كذلك ..إنها بداية استعارة نتاج ما، من حضارة ما، من أجل خلق منتج جديد.
 
اللغة الإنكليزية ليس فيها كلمة تعادل كلمة رحمن، أو رحيم وترجمة هاتين الكلمتين هي بمثابة محاولة «إدخال الفيل في خرم ابرة.» في رأيي، الأنثوي في معرفته، وفي قراءة القرآن، أرى أن الرحمن والرحيم تعودان في معناهما إلى معنى رحمة تشبه في عظمتها ـ إن جاز التشبيه – الرحمة التي يحصل عليها الجنين في الجنة الصغيرة التي يعيش فيها في رحم أمه، يحصل الجنين على كل شيء من أنفاسه إلى غذائه إلى دقات قلبه، وهو في مكان آمن يتطور بأمان.
هذه هي مقاربة الرحمة الواردة في معنى الرحمن الرحيم. إنها ليست رحمة عادية وسطحية، وإنما رحمة عارمة بسببها يتطور الإنسان طيلة حياته.
ولأن الرحمة التي تجري في داخل الرحم، بسبب قصور اللغة، قريبة لغويا من معنى الرحمة الإلهية، ورد في القرآن أن الرحمن «لم يلد ولم يولد». وجب الإيضاح بسبب التقارب، ومنعا للخلط في فهم الفرق بين الرحمة، التي تجري في الرحم، والرحمة التي تجري في الكون أجمعه خارج الرحم. الكلمات التي تعادل «رحمن» في الإنكليزية هي كلمات تعني في جذرها «التعاطف مع الغير، أو الكرم بين إنسان وإنسان في التصرف»، ولا علاقة لها مطلقا بنوع الكرم والرحمة من منطلق كوني شاسع يشمل الخلق، إنها عطاء متواصل لا يمكن إحصاء منابعه.
وهكذا ترجمت كلمات معدنها من الذهب على الأقل، إلى كلمات معدنها من النحاس على الأكثر. وعبر ترجمة كهذه صار القرآن أكثر سطحية وأقل قدسية ويستخدمه الكثير من مهاجمي الإسلام لأنهم يقرأونه بقيمهم الواردة في لغتهم وليس بالقيم الأصلية التي تحتويها الكلمات العربية، ولأن العرب والمسلمين لا يترجمون القرآن بإبداع، وإنما فقط يقومون بترجمة تفسير القرآن، لهذا فالذي يترجم حاليا ليس القرآن، وإنما تفسير القرآن. والفرق بين القرآن والتفسير شاسع.
وبما أن الحوار الحضاري بين العربية والإنكليزية غير متوازن بسبب العبودية المرئية وغير المرئية المفروضة على العرب حضاريا وفكريا، يصمت الكثيرون من العرب في وجه ما يقال لهم عن أنفسهم وعن لغتهم. ويكظمون آراءهم ويسجنونها، أو يتجاهلون ما يقال.
وعلى كل حال لا تصل أصوات العرب بعيدا عن عالمهم، فحسب الإحصائيات للكتب المترجمة إلى اللغة الإنكليزية من كل لغات العالم، هذه الكتب لا تتعدى 1% من كتب الأطفال 3% من كتب الكبار. اللغة الإنكليزية تقول للغات الأخرى: ليس عندي وقت للاستماع لكم وليس لديكم ما يهمني.
لهذا أرى أن الترجمة فخ حضاري إذا لجأنا لها على أنها أداة معرفة الحضارات الأخرى، إنها ليست كذلك ..إنها بداية استعارة نتاج ما، من حضارة ما، من أجل خلق منتج جديد. أما الأصل من كل المعارف فلا يفهم إلا عبر تتبعه من منابعه التي أنتجته وتحمل تاريخه، وجينات أفكاره وأسباب تطوره وكينونته، وفيها احتمالات تطوره مثلما البذرة تحمل الغابة في رحمها. وها هو العالم الغربي بدأ يتعلم اللغة العربية، ليس اهتماما بالحضارة العربية، وإنما بسبب الاهتمامات العسكرية، ولأن اللغة من أهم أدوات السيطرة. وعليه بإمكاننا أن نتوقع «عسكرة» إضافية للغة العربية. لهذا قبل أن نترجم لغتنا علينا أن نعرفها، ونشفيها من جراحها، أن نتركها تترجم حياتنا بأمانة، فنفهمها، وإلا ترجمنا جهلنا وظنناه حقيقتنا، واغتربنا عن أنفسنا وعن لغتنا والعالم.
 
٭ كاتبة فلسطينية