عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Jul-2020

(بقعة عمياء) لسميحة خريس.. عمّان سرّ المكان

 سليم النجار - (كاتب وناشر أردني)

الراي - ثمة طرب ما تتداعى إليه ذكريات قديمة وأخرى طازجة لم تغادر لحظتها الراهنة، خيلاء يتوهج في داخله يمنح خطواته سيراً رهواً؛ انت لي من قبل ألف عام، هذا هو الشعور الذي يتولد عند المتلقي أو للدقة عندي شخصياً منذ السطور الأولى لقراءتي رواية الكاتبة سميحة خريس «بقعة عمياء» الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون/ عمان، حين تواصل سردها على هذا المنوال: (او خوفًا من ترسيخ ارتباطي بالرجل الكذبة ص٢١ .(وكأن سردها ذرة تراب عالقة على شجرة توت: (إلى اللقاءات المرحة مع المثقّفين في مقهى الفاروقيّ الذي اُغلق بعد عقود لأنّ مردودَه الماليّ لم يعد يُجدي.
في ذلك الوقت استبدل أهالي عمان المقهى العتيق بـ(مقهى السلطان ص٢١ .(هذه الدلالة المكانية التي وظفتها سميحة، ما هي إلا إشارة لماضٍ ضاع وتاه عن ضمائرنا، فليس من باب المصادفة اختيار «الفاروقي» الموجود لإسم مقهى كان له شهرة في عمّان، لكن هذا الأسم هو لعائلات يافاوية هاجرت من يافا إلى عمّان عام ١٩٤٨ ،هذه الإشارة تدل على أن الماضي انتهى واستبدل بحاضرجديد «مقهى السلطان» والرّواد من شريحة المثقفين؛ أي هؤلاء اصبح ماضيهم لا يعنيهم، والأن هم أمام واقع عليهم التعاطي معه. سميحة خريس في هذا التوصيف تدين المثقف وتصور ان المكان هو الضحية، ومكان لثرثرة المثقف سواء كان في الحاضر أو في الماضي.
غير ان وضع السرد في رواية «بقعة عمياء» يبقى بين مدّ وجزر وذلك من منظور الأختلاف الحاصل في المجتمعات العربية نفسها: «ينشغل الموت بالأبرياء في حارات بيروت وأزقة القدس وشواطئ غزّة» (ص٢٤.(
وفي انتظار مراحل انتقال متوقعة وعلى ضوء تطور وسائل الاتصال والإعلام التي أخذت تهيء المجتمعات لأوضاع ومستجدات تبشر بتكوين مجتمعات اكثر تفتحا وأوسع حوارا؛ ليس في مجال الحرية الاجتماعية ودورها فحسب، بل في كل المجالات التي تتداخل مفرزة صورة نمطية جديدة يجب التهيؤ في رسم ملامحها: «والنزوات التي ظننتها طارئة تنجلي سريعا. انشغلت بحرماني من أشياء كثيرة اكتشفت انها تتناثر في العالم دون حساب، وتستثيني، كان العقاب فظًّا لم يرحم أو يسامح» (ص٣٠.( ومادامت الثقافة التقليدية؛ بما فيها الثقافة الشعبية تغبيرا عن اللاشعور الجمعي لا تعتبر المرأة إنسانا، بل قاصرا، وجنسا، فإنها لا يمكن ان تكون مصدرا للأخلاق. يقول العقاد: لم يؤثر عن المراة قط أنها كانت مرجعا أصيلا لخلق من الأخلاق لم تتلقاه من الرجال، ولم تتجه به إليهم، ولا استثناء في ذلك الصفات التي نعدها من أخص الصفات الأنثوية، ومن اقربها لطبيعة المرأة. ويستطرد قائلا: كان هو السائغ عقلا، لما كان في المرأة استعداد مستقل لتكوين القيم الأخلاقية. فحسب العقاد إن المرجعية الأخلاقية للنساء هي الرجال. لكن في واقع رواية «بقعة عمياء» الأمر يختلف تماما؛ وتبحث عن أكثر من ضوء واكثر من شمس ساطعة؛ كأن الخليقة تبدأ الآن. الضوء الساطع؛ كما الظلام الدامس، كلاهما يحد من كفاءة البصر ويستنفر البصيرة: «يقال إنّ الرجال المحترمين العاديّين؛ حين تحرمهم الدنيا من أفراح الحبّ ومتع الحياة العائليّة الموصوفة في الحكايات ينصرفون إلى أعمالهم، يدمنون مكاتبهم وأشغالهم، فإذا ضاق عيشهم وفشلوا في وظائفهم ومشاغلهم انتقموا من أولادهم بالضرب المبرح، وإذا تعذر هذا وذاك لعبوا الطاولة في المقاهي» (ص٢٠٢-٢٠٣.(
قد يبدو هذا كله تحصيلاً للحاصل؛ هذا ما ذهبت له رواية «بقعة عمياء»، لكن في عالم العرب منذ سبيعنيات القرن الماضي وحتى اليوم، حيث تصطرع وتتصارع ثقافتان: ابنة العصر، وتلك القادمة من أزمنة مملوكية وسلطانية. الأولى مُسلحة (بتفاؤل الإرادة وتشاؤم الذكاء)، والثانية مُسيَّجة بقيم الكذب والدجل وانياب الفهلوة: «قلت لمساعدي المصريّ غير راض عن الأغبرة على الرفوف العلوية، ولعلي أفضت وأنا ألومه وأقارن بين المحلات الوضاءة ومحلي، لم يجادلني كعادته مكتفيّا بسحب كرسي اعتلاه ممسكاً بفوطة ماسحًا بها الأغبرة» (ص١٨٢ .(وبقدر ما يتفتح أفق كهذا؛ تضيق مساحة التمركز على الذات، ونفتح الثقافة على نفسها وعلى غيرها: لا ترنو إلى صورتها في المرآة مفتونة بملامح هوية تجلّت فاكتملتْ، ولا ترمق الغريب، والأخر، والمختلف، بعين الُمتوجَّس القَلق، لهذه الرؤية مكانها في سرد خريس: «يوشك القرن العشرين على الخروج من بوابة الزّمن، يمكنني استشعار القادم من أحداثه مثل صرصار مزوّد بلواقط تنبئه عما سيكون أمامه، لكني وقعت في الخطأ وأنا أفصح عن نظريتي حول دخول صدام إلى الكويت، كان المثقفون الجالسون على مقاعد المقاهي يشبهونه بصلاح الدين الجديد» (ص٦٠.( خرجت سميحة خريس في روايتها «بقعة عمياء «عن المألوف المتبع في الرواية العربية؛ فهي لا تحتاج إلى أن تكتب افكارا كبيرة، وتفعل مثل فعل الروائي جبرا ابراهيم جبرا يختار مثقفين كي يعبر. وخريس على العكس ترى أن أي شخصية أي هامش يستطيع أن يلخص العالم المهم كيف يتم قراءة الهامش: «شقيقي المواسرجي كان فدائيًّا صغيرًا قبل أعوام ؛ ثم تنكّر لماضيه وانصرف إلى رزقه» (ص١٦.(
إن الوصف في رواية «بقعة عمياء» لم يكن عدمياً، ولم تتعاطف مع المهمشين والفقراء والمطرودين والمنبوذين اجتماعيا، بل كان الوصف استطيع الزعم محايد بالمعنى الذي يفتح آفاقا على المكان بوصفه مرآة لشخصيات الرواية: «يخيم على عمان حزن رمادي ويسكن الملل بيتي؛ كأنه الموت؛ ولكن الجارة تحدث زوبعة خاصة في فؤادي» (ص٨٤.( إنّ نص رواية «بقعة عمياء» جملة من العوالم المتداخلة والتي لا يمكن أن تدرك إذا عُزلت عن أطرها الدّلالية والتّداوليّة، وهو ما يدفع الناقد إلى مقاربات جديدة في محاورة النصّ، تتجاوز القراءات النقدية التقليدية لتتفتح على مدارس نقدية تعرف اين تقرأ؟ واين تتجرأ وترصف للجديد القادم، فالنقد هو استنباط أليات جديدة لكل نص يم تناوله.