سوشيال ميديا-
اخيراً وبعد ترقب وانتظار وتأخير طال ستة أشهر غصت بالضغوطات والمراوغات والترهيب، فعلتها محكمة الجنايات الدولية، حين شرب قضاتها حليب السباع جرعة واحدة، ذبحوا البقرة الحمراء، وعبروا عتبة الممنوعات، وذلك عندما أصدروا بالإجماع حكماً باتاً لا رجعة عنه، بتوقيف بنيامين نتنياهو ووزير حربه المُقال يوآف غالنت، وجلبهما الى قفص العدالة الدولية في لاهاي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في مشهد كان من المستحيل حتى الامس القريب.
بصدور هذا الحكم الذي دوّى دويّ صافرات الإنذار في حيفا وعكا وكل الجليل، وسُمع رجعه في مشارق الأرض ومغاربها بوضوح تام، انجزت المحكمة الجنائية على الفور، ثلاثة استحقاقات بدت لبعض الوقت عصية المنال، كان كل استحقاق منها بمثابة جائزة ثمينة، او قل ثمرة كبيرة طيبة المذاق، اسقطتها المحكمة الرفيعة في السلة الفلسطينية الصغيرة دفعة واحدة، فيما فاء عطرها الاخّاذ في الجوار، ولولا الحذر المستحب بطبيعة الحال، لكان في وسع المرء المتفائل دون افراط، ان هذا الحُكم يُعتبر في حد ذاته نقطة تحوّل فارقة في مسار الصراع.
ذلك ان هذا الحُكم الذي له ما بعده من تداعيات تُرى بعين البصيرة منذ الآن، لا يخص نتنياهو وغلانت فحسب، وانما يخاطب كيان الاحتلال بكل مكوّناته، ويطال الجيش والمجتمع والدولة دون استثناء، بدليل كل هذا الهذيان الجارف من جانب سائر اطراف الطيف الصهيوني ضد محكمة الجنايات وقضاتها والمدعي العام، حيث لم تبق مفردة في قاموس السب والشتم العبري الا واستخدمها كل المتحدثين من كل الأحزاب ومنابر الاعلام، على أرضية ذعر جماعي جامع مانع، من مغبة الاستدعاءات اللاحقة، ومن شتى المضاعفات الناجمة عن هذا الزلزال، وعلى رأسها النبذ والعزلة الدولية، وتوقيفات الشرطة في المطارات.
بالعودة الى الجوائز الفورية الثلاث، التي هبطت في السلة الفلسطينية فور صدور هذا الحكم، يمكن القول ان أولاها، وربما أثمنها، كامنة في حقيقة ان هذه السابقة القضائية غير المسبوقة مثّلت في حد ذاتها، بداية النهاية لزمن الإفلات من العقاب، الذي ظلت تتمتع به دولة الاحتلال، وشاخصة كنقطة كبيرة في أخر سطر حصانة الدولة المارقة ضد المساءلة والقصاص، وواعدة بإنزال اسرائيل تحت قوس القانون الدولي لأول مرة منذ ستة وسبعين عاماً، وهذا هو منبع حالة الجنون الطامة، التي استبدت بالقوم واخرجتهم عن الطور.
الجائزة الثمينة الثانية تجلت من خلال ادخال طرف ثالث، لأول مرة ايضاً، في مجرى هذا الصراع الذي بقيت فيه دولة الاستيطان ترفض اشراك أي طرف دولي، او مساهمة أي جهة كانت في لعبة المفاوضات، التي ظلت تجري لعقود، وتتعثر على طول الخط، دون شهادة شاهد محايد على تفلّت حكومات الاحتلال المتعاقبة من كل تعهد والتزام، وتهربها المنهجي من أي استحقاق او اتفاق، الامر الذي يُشكل والحالة هذه اول خرق من نوعه في الجدار السميك، ويشق مساراً كان محكم الاغلاق، ويقدم فرصة يمكن البناء عليها، لتوظيف هذا الخرق، في اطار المقاومة الفلسطينية متعددة الاشكال والصعد، بما فيها صعيد القضاء.
اما ثالثة هذه الجوائز الفورية القيّمة فهي متصلة برد الاعتبار فوراً الى هيبة القضاء الدولي، الذي وقف، طوال نحو سنة وأكثر، وقفة الولد اليتيم امام مأدبة اللئام، وكاد يسقط في امتحان البقاء، تحت وطأة التهميش والتعطيل والحصار، كما اعاد هذا الحكم تعويم المحكمة الجزائية، وربما "العدل الدولية" من الغرق في بحر الاستعصاءات السياسية، والحؤول دون استمرار عملية تقويض دور المؤسسات الحقوقية، وتحجيم سائر منظمات القانون الدولي، فضلاً عن شل فاعلية مجلس الامن الدولي ومختلف وكالات الأمم المتحدة.
قد لا يتم جلب نتنياهو الى لاهاي، وقد تحميه واشنطن من الوقفة في القفص، الا انه تم في المحصلة الأولية لهذا الحكم، تبديد صورة دولة الناجين من المحرقة النازية، وسقوط الرواية الصهيونية عن الدولة الديمقراطية الوحيدة، وعن الجيش الأكثر اخلاقياً في العالم، ناهيك عن المظلومية واحتكار دور الضحية الأبدية، حيث حلت الآن محل هذه المزاعم، صورة دولة مارقة متوحشة منبوذة، يقف على رأسها مجرم حرب، كان يسعى الى مضاهاة مكانته في التاريخ مع مكانة ونستون تشرتشل، فاذا به يسقط في الحضيض، الى جانب عمر حسن البشير ومن لف لفه.