عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Jun-2019

بين غموض الأفكار وعمقها.. هل يفهم الفلاسفة ما يقولون؟ - عمران ابوعين
 
كثير من الشباب اليوم وخصوصاً من المنبهرين بالفلسفات الغربية، تجده مأخوذاً بلغة الخطاب وغموضه أكثر من حقائقه وبراهينه، تصل إلى درجة الإذعان والخضوع لهذا الغموض، وربما يعود سبب ذلك إلى اعتقاد القارئ أو المنبهر إلى أن هذا الغموض هو فرع من عبقرية الكاتب وأنه فوق إمكانياته هو، أو لسبب ما يحققه هذا الغموض من الابتهاج في نفس الشاب وما يحققه له من فرادة شخصية أو بسبب أن بعض القراء يميل إلى هذا التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي. وفي هذا السياق، أشار الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الرد على المنطقيين" إلى ذلك بعبارة جميلة، حيث يقول: "فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته؛ لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات". 
 
فكم من الشباب المتطلع للثقافة قد قرأ في كتب الفلسفة المعربة واصطدم بمصطلحات ملتبسة، مثل تلك التي صكها المؤلف بنفسه دون التعريف المسبق بها، أو من تلك التي لها رنين الخواجا، فاستحيا أن يعترف بعدم فهمه لهذه النصوص المحيرة، فأظهر الموافقة، بل وشاكل سلوكيات قراء هذه الكتب حتى لا يتهم بعدم الفهم! وكثير من هذه الفئة من الشباب يظن أنه إذا شاكل الفيلسوف فإنه بذلك قد شاركه في جاه ذكائه، مثل أولئك الذين يعتقدون أنهم إذا شابهوا المجتمعات الغربية في سلوكياتهم المنحلة فكأنما شاركهم في علومهم المادية المتقدمة!
 
إرهاب القارئ وغموض النصوص
أساتذة الفلسفة في العالم العربي، الجابري والعروي، يعلنون أنهم لا يفهمون الكتب الفلسفية المترجمة للعربية، بل العروي لم يفهم كتابه نفسه!، فأي شاهد على ورطة الغموض في الكتب الفلسفية والفكرية المعربة أكثر من ذلك؟
قد تحدث كثير من المفكرين الغربيين والعرب عن حالة الغموض هذه، أو ما يسميه الفيلسوف الأمريكي "جون سيرل" بإرهاب الغموض، وسنذكر بعض النماذج لهذه الحالة، "حالة الغموض"، من أصحاب الفلسفة أنفسهم، وليس هدفنا حشد الكلام، بل هو إيضاح الصورة للقارئ على أن كثير من كلام الفلاسفة لا يفهمه الفلاسفة أنفسهم! في الوقت الذي يدعي فيه كثير من "المثقفين" فهمه والإلمام به. يعتبر الفيلسوف الإنجليزي الشهير "برتراند رسل" من أكثر من نقد الفلاسفة بقضية الغموض والإبهام، فهو يقول عن "هيجل" في كتابه "حكمة الغرب" يقول: "لو بحثنا عن تعريف للفكرة المطلقة عند هيجل؛ لوجدناه من الغموض بحيث يغدو أمراً لا جدوى منه". بل إن "رسل" يرى أن عدم انتشار فلسفة هيجل في فرنسا هو غموض كتابته بالأصل الألماني بشكل يمنع ترجمته بوضوح للفرنسية. وفي معرض حديثه عن "هوايتهيد" علق "رسل" على كتاباته ووصفها بأنها "عسيرة الفهم". وعن الفيلسوف المشهور "هايدجر"، وهو من أولئك الفلاسفة المشهورين، فقد تحدث "رسل" عن غموض فلسفته وتكلفها لدرجة أن اللغة التي كتبت بها تسير بلا ضوابط، على حد تعبير "برتراند رسل".
 
والحقيقة فإن المشكلة الكبيرة هي توهم كثير من القراء بأن هذا الغموض العسير على الفهم، هو دلالة على عمق الأفكار، بمعنى، اعتقاد القارئ أنه كلما كان النص غامضاً أكثر، كلما كان يدل على عمق أكبر في الفكرة!. وقد أشار "برتراند رسل" إلى هذه المشكلة وعلق عليها، بل وتأسف لذلك "بل إننا نجد في حالات معينة ما يشبه التقليد الراسخ الذي يقضي بأن تكون الكتابات الفلسفية غامضة معقدة في أسلوبها، حتى تكون عميقة، وهذا أمر مؤسف". وحتى كثير من الباحثين ذهبوا إلى أن الغموض في الكتابات الفكرية والفلسفية له وظيفة أخرى، وهي التعمية على الثغرات إذا تورط المؤلف بشح البرهنة، ففي المناطق الرخوة في الكتاب يلجأ الفيلسوف لاستعمال الغموض لكي لا تصطاده العين الناقدة للقارئ، ومن ذلك ما قاله أستاذ الفلسفة الأمريكي "سترومبرج" في كتابه (تاريخ الفكر الأوروبي)عن ماركس حيث يقول: ".... ولذلك انعطف -أي ماركس- إلى استعمال لغة غامضة بغية اخفاء بعض المشاكل أو القضايا الصعبة". 
 
وفي الحقيقة، هنالك نماذج كثيرة تدل على هذا الغموض عن الفلاسفة أنفسهم، ولا يسعنا ذكرهم -وليس هدفنا جردهم- والتعليق على ما لاحظوه من الغموض في النصوص الفلسفية وأصحابها، لذا، سنعلق وبشكل سريع على بعض الأسماء المشهورة، ليطمئن القارئ، ولتتضح الصورة والمقصد، ومن ذلك مثلاً ما طرحه أستاذ الفلسفة البريطاني "باري سميث" في ورقته البحثية وتعليقه على الفلسفة الألمانية بأنها "غير قابلة للترجمة" بسبب غموضها الأسلوبي. وما أشار إليه مؤرخ الأفكار الأمريكي "كرين برينتون" في كتاب "تشكيل العقل الحديث" وحديثه عن الفيلسوف الألماني "كانط" بأن من صفات "كانط" الإطالة المملة والغموض. وحتى ذلك التساؤل الذي طرحه عالم الفيزياء والفلكي الإنجليزي المشهور "جيمس جينز"، حيث يطرح سؤاله في كتاب "الفيزياء والفلسفة" ويقول: قد يكون هنالك مبرر للتساؤل عما إذا كان "كانط" نفسه قد فهم أفكاه"؟! 
 
وعلى المستوى العربي، نستطيع أن نشير إلى الكاتب والمفكر المغربي المشهور (محمد عابد الجابري) وكلامه عن هذه القضية -قضية الغموض- فقد أشار لها في كتابه "التراث والحداثة" حيث يقول: "أنا شخصياً عندما أقرأ كتاباً مترجماً في هذا العصر إلى العربية في موضوع فلسفي لا أفهمه". ومن الطرائف التي وقعت في ترجمة الكتب الفلسفية والفكرية، أن المفكر المغربي عبد الله العروي كتب كتابه "الأيدلوجيا العربية المعاصرة" باللغة الفرنسية، وعند ترجمته للعربية -وكان بإشراف الكاتب- فقد اعترف العروي أنه لم يفهم -برغم أنه المؤلف- كتابه، وأنها طلاسم لم يستطع استيعابها، وعلق يقول بأنها ألغاز لا يجد سبيلاً إلى حلها. 
 
فهؤلاء أساتذة الفلسفة في العالم العربي، الجابري والعروي، يعلنون أنهم لا يفهمون الكتب الفلسفية المترجمة للعربية، بل العروي لم يفهم كتابه نفسه!، فأي شاهد على ورطة الغموض في الكتب الفلسفية والفكرية المعربة أكثر من ذلك؟ كما أن الغموض، في الحقيقة هو ليس ظاهرة حديثة ولا هو بتيار متصل تاريخياً، بقدر ما هو موجة اسلوبية تظهر وتخبو، ففي الفكر العربي نجد مثلاُ المعركة النقدية لطه حسين وجيله مع شبان المدرسة الواقعية التي كان رأس حربتها في تلك الحقبة عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، فقد تهكم طه حسين بهم بأنهم يميلون للغموض، ففي مقالة بعنوان "يوناني فلا يُقرأ" تهكم طه حسين بمشكلة الغموض وقال: "... ويتحدث بعضهم إلى بعض بهذا الكلام ويظنون أن بعضهم يفهم عن بعض... فإذا لم يفهم الناس عنهم رموهم بالجمود....".  وعليه، فإن هدفنا في هذه المدونة هو تحرير القارئ العربي من الهزيمة أمام "ديكتاتورية الغموض" وطلسمة الكتابة الفكرية، التي ترغم القارئ على الإذعان خوفاً من الطعن في فهمه وقدراته! وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا على كتاب مآلات الخطاب المدني للكاتب والباحث إبراهيم السكران، مع التصرف والإضافة والتنسيق.
 
الجزيرة