عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2019

ازدهار المركزية الأوروبية وانهيارها*صلاح سالم

 الحياة

رغم فشل الحملات الصليبية على المشرق العربي فى تحقيق انتصارات نهائية أو ترك آثار أبدية، فإنها قد نجحت فى وضع بذرة خبيثة فى الضمير الأوروبى سوف تنتج بعد قليل ثمرة مرة تتمثل فى استخدام القوة العسكرية بدافع القداسة الدينية، حيث القتل والتدمير في سبيل القيم المسيحية بمثابة الحق والواجب، على نحو تبدى سريعا فى حروب الاسترداد الإسبانية (الأندلس) وفى حركة الكشوف الجغرافية واستعمار الأميركتين، بدافع تبشير الكافرين والوثنيين هناك. إنه الشعور نفسه، لكن بعد علمنته وتسمية التبشير المسيحي بالرسالة الحضارية، هو ما سوف يحفز موجات الاحتلال الأوروبي حيث مورست سياسات الغزو والاحتلال فى أربعة أنحاء العالم بذريعة مسؤولية الرجل الأبيض عن تحضير البشرية، وهذا هو جوهر النزعة الكولونيالية التى سادت، خصوصا فى الجغرافيا العربية، طيلة الفترة الممتدة بين التاسع عشر والعشرين، فى ظل تراجع الإمبراطورية العثمانية، الذى بلغ ذروته مع الحرب الأوروبية الكبرى، التى وصفت بالعالمية تحت تأثير المركزية الأوروبية، حيث صار مفترضا آنذاك أن كل ما هو أوروبي يجب أن يكون عالميا.
 
 
وفى موازاة تلك المركزية الإستراتيجية تنامت نزعة ثقافية شكل تدريجيا منذ القرن الثامن عشر نسقا فكريا متمركزا حول ذاته، استند إلى نتاج العلوم الحديثة وخاصة فى حقلي الأنثروبولوجيا واللغات، فى تقديم نظريات ذات منحى عنصرى واضح حاولت تبرير وجود حدود «عرقية» بين الغرب والآخرين‏، وسعت إلى صياغة مقومات الغرب الفكرية والعلمية المعاصرة، وإسقاطها على تاريخه، أى محاول تثبيتها فيه انطلاقاً من لحظة تاريخية معينة، تم التوافق عليها باعتبارها شخص طاليس الأيوني، الذى اعتبر بمثابة الميلاد الحقيقى للفلسفة اليونانية، والتي اعتبرت بدورها لحظة ميلاد التاريخ الحقيقى للفلسفة الإنسانية. وهنا رتبت الممارسات اللاحقة جميعها انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة على أنها نسيج حي متصل يغذي بعضه بعضاً. ومن الطبيعي أن هذا النسيج سيهمل كل المعطيات والوقائع التي لا تناسب معاييره (الفكر الشرقى القديم على مستوى الحكمة والدين، والذى بات معروفا كم تأثر به أفلاطون نفسه. وأيضا الدور العربى الإسلامى فى نقل وترجمة الفلسفة اليونانية نفسها، أو شرحها والتعليق عليها كما تجلت فى ظاهرة الرشدية اللاتينية) حتى يتحقق له التماسك والاضطراد. وحتى إذا وجد لدى هذا التيار بعض الإنصاف، الذى يمنعه من أن يهملها تماما، فإنه سوف يعدها «استثناءات هامشية» لا تمنع إضطراد الوعى الغربى نقيا بشكل جوهرى من أثينا إلى روما إلى عواصم الغرب الحديث على شاطئي المحيط الأطلسى.
 
وهكذا جرى الحديث عن فكر أوروبى يتسم بالوحدة والتماسك والاطراد، وكذلك بالفرادة والكونية، يصلح لكل زمان ومكان كما يقول السلفيون الإسلاميون، ويتجذر فى تجربة أصلية هى الفلسفة اليونانية، التى تأخذ هنا مكان التجربة النبوية فى المدينة المنورة. ومن ثم أخذت أيديولوجية الهيمنة الغربية تحكى عن ذات حضارية مطلقة النقاء خالية تماماً من الشوائب، وعن آخر حضارى متخلف بقدر ما هو مختلف، لم تتورع عن أن تفتش في نقائصه أو تحاول خلق هذه النقائص على أصعدة العرق والدين واللغة.
 
ففى خمسينات القرن التاسع عشر كان جون هنرى نيومان يقول أن الحضارة الأوروبية متميزة فى طبيعتها، جليلة فى رواجها، وليس لها منافس على وجه الأرض، ما يبرر أن تتخذ لنفسها لقب «المجتمع الإنسانى» ولحضارتها ذلك المصطلح المجرد «الحضارة». أما هنرى توماس باكل فكان يؤكد على أن التقدم الذى أنجزته أوروبا من البربرية إلى الحضارة يرجع بكامله إلى تنامى معرفة الإنسان الأوروبى، وأن «الحضارة» و «أوروبا الحديثة» ليسا إلا مترادفين.
 
وفي ما يخص العرق تحديدا، وعلى حد ما ذهب إدوارد سعيد فى «الثقافة والإمبريالية» تم استثمار نظرية «الكيوف الأرسطية» وتوسيعها من جانب، واختزالها من جانب آخر بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق الإنسان الغربي، وجرت دراسات هائلة وظهرت نظريات كثيرة تبرهن على أهلية ذلك العرق وتفوقه على الأعراق الأخرى. بل وعلى أن اللغات تتطابق والبنى الذهنية والأعراق حيث أن العرق أى التصنيفات حسب الملامح الجسدية التى وضعها علماء الأنثروبولوجيا أو «العرق اللغوى» «لا يمكن الدخول فيه أو الخروج منه، فلغتنا تحددنا، إذا، كما يحددنا ديننا ولون بشرتنا. أما «أرثر دو جوبينيو»، منظر العنصرية العرقية الأشهر، فقدم فى الأجزاء الثلاثة الأخيرة من كتابه «فصل المقال»، مسحا للحضارات التى صنعها الدم الأوروبى، فإن لم تكن جميع الحضارات قد نتجت مباشرة عن الجنس الأبيض، فهى مستمدة منه، أو على الأقل تأثرت بإسهامه وحظيت بمساعدته.
 
ويجسد خطاب هيغل نموذجا لمثل هذه الرؤية المشوهة للآخر والتى أدت إلى انقسام جذرى في الفكر الإنساني، فثمة عرق منح التفوق والرفعة والسمو واحتكر الحقيقة بكل أبعادها وثمة عرق آخر أختزل إلى الحضيض والدونية التي تجعله يعيش دائماً إحساسا بالمديونية الأخلاقية والثقافية والدينية للآخر. فيرى، مثلا، أن الأفريقيين والآسيويين أشد التصاقاً بالدونية التي تميزهم في كل شئ عن الغربيين. فالشرقيون لديه لم يتوصلوا إلى معرفة الروح، أو الإنسان بما هو كائن حر ولم يكونوا أحرارا قط، أما الأمم الجرمانية، تأثير المسيحية، فكانت أول الأمم التى تصل إلى الوعى بأن الإنسان، بما هو إنسان، كائن حر، وأن حرية الروح هى التى تؤلف ماهيته. وهكذا تبقى الشعوب غير الأوروبية بدائية، خاضعة لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيها.
 
أما خطاب إرنست رينان بالذات فيمثل نصا شاملا للعنصرية اللغوية والعرقية والدينية، يؤسس لظاهرة الخوف المعاصر من الإسلام، خصوصا عندما يعلن بأن الإسلام هو النفى الكامل لأوروبا، وأن التعصب الذى شهدته أوروبا لفترة زمنية قصيرة فى أسبانيا فى عهد فيليب الثانى، وفى إيطاليا فى عهد البابا بيوس الخامس لا يمثل شيئا يذكر بالمقارنة مع تعصب الإسلام الذى يحتقر العلم ويلغى المجتمع المدنى!، وأنه، أى الإسلام، يمثل التبسيط المرعب للعقلية السامية الذى يقلص من قدرة العقل البشرى ويجعله مغلقا أمام كل فكرة رفيعة وكل شعور مرهف وكل بحث عقلانى، إذ تضعه فى مواجهة تكرار أبدى لا يزيد شيئا بالمعنى. هكذا يصدر رينان تعميمات كاسحة عن تلك «العقول الضيقة» لدى من يعيشون فى الشرق وإفريقيا، الذين يمثلون جنساً عقيماً فكرياً، قياسا إلى الأوروبى المسيحى المتحضر، واسع الآفاق. وعندما طلب من رينان، تحدياً لمقولته، أن يفسر ازدهار العلم الإسلامي فى القرون الوسطى، أجاب قائلاً بأن العرب، كالساميين الآخرين، غير قادرين على تطوير العلم، وإن الخلافة العباسية كانت أساساً فارسية، أى هندو أوروبية، حتى وإن استخدمت اللغة العربية، ومن ثم فإن الآريين هم المسئولون الحقيقيون عن ازدهار العلم عندهم!.
 
أما اشبنغلر الذى كتب غداة الحرب الكبرى وعلى هامشها، كتابه «أفول الغرب» فقد تحدث عن القطيعة بين الإغريق والآراميين منذ أقدم العصور ويؤكد على المكانة المميزة للدين فى حياة الحضارات، معتبرا أن الكائن الواعى والدين واللغة عناصر مترابطة داخليا إلى الدرجة التى أدت حتما إلى نوع من الفصل التام بين مجال لغوى يونانى يخضع لثبات شكلى، ومجال آرامى ينتمى إلى المجال العربى الصرف منذ العام سبعين قبل الميلاد مما أدى إلى نشوء منطقتين مميزتين ثقافيا.
 
وعلى هذا بلغت نزعة التمركز الأوروبي حول الذات أوجها عشية الحرب الكبرى، الى درجة صار الجميع غير قادرين على الانفلات منها أو التفكير خارجها. فحتى عندما كان مفكرون من خارج الغرب يجادلون ضدها, فلم يكن باستطاعتهم نفي التفوق الأوروبى من الأصل, بل كانوا فقط يحاولون تفسيره بدوافع مختلفة عن تلك الدوافع العنصرية التي يرتكز إليها، فلا يظل مرتبطا بفضائل خاصة أو بانتماء عرقى ودينى، أو بتراكم ثقافي تم داخل التاريخ الغربى وحده علي نحو مستقل عن الآخرين، بل يصير نتاجا للتراكم الحضاري عبر مسيرة التاريخ البشري.
 
كانت هذه الأرضية الثقافية هى مسرح الوعي الذى جرت عليها وقائع الحرب الأوروبية الكبرى قبل مائة عام بين دول المحور بقيادة ألمانيا ومن خلفها الإمبراطوريتين النمسوية المجرية، والعثمانية، وبين دول التحالف وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا ومن خلفهما إيطاليا وبلجيكا، لتخلف لنا عشرة ملايين من القتلى ناهيك عن أضعافهم من الجرحى والمصابين بعاهات مستديمة وأزمات نفسية، فى دراما كونية كانت هى الأكثر بربرية طوال التاريخ حتى هذه اللحظة، فلم تتفوق عليها سوى الحرب الكبرى الثانية، وهى حرب أوروبية أيضا، ولكنها ستحمل وصف العالمية كسابقتها، فقط لأن أوروبا منحت نفسها حق الحديث باسم الإنسانية كلها.
 
فى هذا السياق كان العرب فى موقع المفعول به، شارك فى الحرب بدرجات متفاوتة بغية الحصول على بعض غنائمها فحصد العلقم من سايكس بيكو إلى وعد بلفور. أما مصر، فكانت مشاركتها أقرب إلى مأساة إغريقية، حيث حاربت بأشكال مختلفة وفى مناطق متعددة إلى جوار دولة الاحتلال التى كانت للتو أعلنت الحماية عليها، بل ذهب مائة ألف من جنودها الهجانة والشغالة إلى فرنسا وبلجيكا وإيطاليا يحفرون الخنادق على جبهات القتال، ويموتون غرباء لغير هدف ودون معنى، فيما الأراضى المصرية تتحول مسرحا لجيوش الحلفاء، تقدم لهم الحكومة المصرية كل المؤن الغذائية والتجهيزات اللوجستية مجانا، بينما فلاحوها الفقراء الذين فاتهم الموت فى الحرب يموتون من الأوبئة خصوصا الطاعون والكوليرا. تلك هى قصة الحرب الكبرى التى بدأت أوروبية وانتهت عالمية، دفع المصريون والعرب بعض أثمانها الفادحة، بحكم السيطرة الأوروبية على الأرض العربية.
 
المفارقة هنا، ولعله دهاء التاريخ، أن اللحظة نفسها التي شهدت ذروة المركزية الأوروبية، وجعلت حروبها القومية على المستعمرات حربا عالمية، هى نفسها التى شهدت انفجارها، فلم تعد أوروبا بعد الحرب الكبرى هى أوروبا قبلها، فقد تفككت إمبراطوريات تاريخية كانت قوية، ونشأت على أنقاضها دولا قومية صغيرة، وأخذ النفوذ البريطانى يتآكل تدريجيا وإن بشكل مضمر لم يفصح عن نفسه سوى فى الحرب الكبرى الثانية، حيث تقلص حدود الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وسطع نجم الإمبراطورية الأمريكية التي أخذت من بريطانيا موقع الإمبراطورية الرومانية من أثينا، لتصبح تجسيداً عسكرىاً وسياسياً فائقاً لنزعة عقلية رائدة.
 
* كاتب مصري.