عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Aug-2019

تأملات - د.جميل أبو سارة
 
الدستور - يحدثونك أن الرمزية في قصة آدم تعني: الأمر الإلهي ليس من شأنه أن يتعقل... هذه الشجرة لا تأكل منها لأنك لا تعلم الحكمة الإلهية في السر المتعلق بها... والإيمان أسرار لست معنيا بالاطلاع عليها، ولا التفكر فيها... آمن دون أن تتفكر... وإمعانا في الدوغمائية يقولون: هذا أول درس تلقنه آدم، وأبناء آدم، لا تأكل من الشجرة لأنك لا تعرف سرها... وكذلك التكاليف لا تعرف أسرارها المودعة!
 
والأمر ليس كذلك:
بل أول أسرار التكاليف التي تلقاها الإنسان هو أن – يا آدم - كف يدك عما ليس لك... ما ليس لك فهو حرام عليك... الشجرة تجربتك الأولى، كل ما في الجنة لك عدا تلك الشجرة، ليست على ملاكك، وليست تحت سطوتك، فحذار أن تمتد عينك ونفسك لحرم غيرك... مسؤوليتك حماية الحدود والحقوق، وصلاح الأرض يبدأ من إدراكك الفرق بين حدك وحدود الآخرين، بين كينونتك وكينونات غيرك.
فلا تكن أشياء الآخرين طريقك للوصول إلى أحلامك الخاصة.
العيش نظامه قيم تبدأ من هذا الاختبار... ولغة السيطرة والعدوان لا تقيم الحياة المثالية في عالم الجنان، بل هي لغة الأرض والدنو، حينها فقط: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو)؛ لأن الأب إذا وقع في أول عدوان، كانت الذرية أقرب لذلك أيضا.
يا آدم! ما ليس من حقك سيظل ليس من حقك وإن اعتديت عليه بالتأويل، والتأويل لا يعفيك من المسؤولية هنا...إذا تفتح وعيك بذاتك وبغيرك فإياك أن تطمح في حيازتك غيرك كما تحوز ذاتك... ووجودك في أفق مشترك ومحاط بالأشياء والأسماء يعني أن تعد نفسك لفهم كينونتك وطياتها في ذلك الأفق، وليس أن تظن وجودك هو المركز الأوحد، وما سواه ظلاله وأشياؤه. ولذلك قال: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) والظلم عدوان وتجاوز حقوقي... هذا مِلاكه، رعاية «أشياء الكون»، ورمزية شجرة آدم درس في رعاية «المعنى»، وليست درسا في رعاية دوغما الحرف وظاهر النص فحسب.
الأخلاق البروتستانتية العملية هي المؤثرة في الحداثة، وليست الأخلاق النظرية:
صحيح أن مؤرخي الحداثة يتحدثون عن تأثير «الأخلاق البروتستانتية العملية» في تحويل الفرد المسيحي إلى الاتصال بالعالم بدلا من الانفصال الكاثوليكي، وذلك حين آل الخلاص إلى اختبار اجتماعي وأخلاقي ميداني، بدلا من الخلاص الكنسي. – بحسب المحللين -.
لكن ما أود التنبيه إليه هنا هو أن «الأخلاق البروتستانتية النظرية»، أي الأخلاق من حيث مصدرها واستقلال العقل بإدراكها وتأثيرها على الحكم اللاهوتي وليس العكس - تمثل انتكاسة حداثية بحسبهم؛ ذلك أنها كالأشعرية في حضارتنا لا تعترف بـ «الأخلاق المحايثة للإنسان»، بل باللاهوت فحسب، فلا يعود للإنسان معيار أخلاقي إلى جانب المعيار الديني، إنما هو عندهم معيار ديني واحد لا غير.
وذلك في مقابل الكاثوليكية – أو على الأقل الإكوينية – التي تمثل المعتزلة في هذا السياق، وترى في الإنسان قوة معرفية أخلاقية مركبة فيه، تحت تأثير فلسفة أرسطو كما يصرح توما الإكويني في «الخلاصة اللاهوتية» في الجزء الرابع، ص225 فما بعد.
وباختصار:
على خلاف العادة: الإصلاح الديني الحداثي هنا كاثوليكي وليس بروتستانتيا.
1. الدين المطلق فيه تحرير مطلق للإنسان من قيود الجهل والارتكاس
2. التدين التاريخي [أي التجربة التاريخية للمتدينين] فيها تحرير تاريخي وليس مطلقا
هذه التفرقة أساس فلسفة الدين لمن يفتش عن فاعليته الحضارية اليوم 
لأنه إذا خلط واعتقد أن التاريخي مطلق، فسيعني ذلك بالضرورة أنه لم يبق له شيء لإنجازه، وأنه ما عليه سوى التمسك بما مضى وانقضى من تاريخ!
والحال أن التنوير والتحرير صيرورةُ وعيٍ وعقلٍ وعملٍ لم تُنجَز بعد، ولا تكتمل إلا في المطلق، فمن تقاعس عنها وادعى ناجِزِيَّتَها لم يعِ فلسفة الدين.