عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Apr-2025

خطة الأصابع الخمسة*إسماعيل الشريف

 الدستور

«سأحرِق كل من يقف في طريقي». شارون.
ما زالت ظلال هنري كيسنجر -وزير الخارجية الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي- تلقي بثقلها على المشهد السياسي الأمريكي، تلك السياسة التي تُعلي من شأن المصالح الاستراتيجية فوق القيم الإنسانية النبيلة، وتفضِّل معادلات التوازن الدولي على مبادئ العدالة الراسخة، وتتعامل مع الأزمات العالمية بمنطق الإدارة والاحتواء دون السعي لحلها جذريًّا، بل تعمد إلى تجميدها في إطار يخدم المشروع الأمريكي للهيمنة العالمية. وبالتوازي، لا يزال طيف أرييل شارون -رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق- ماثلًا بقوة في صلب العقيدة العسكرية الصهيونية، تلك العقيدة المؤسَّسة على مبدأ الردع الذي يتجاوز حدود الوحشية، والإفراط المتعمد في استخدام القوة المسلحة، وفرض حقائق ميدانية على الأرض تستعصي على التراجع أو التغيير. ونشهد اليوم في قطاع غزة المنكوب تجسيدًا صارخًا لهذه العقيدة في أكثر صورها بشاعة ودموية.
أخرج مجرم الحرب نتن ياهو خطة استراتيجية قديمة من أحد أدراج مكتبه، وضعها سلفه أرييل شارون، المسؤول الأول عن مجازر صبرا وشاتيلا المروعة، ثم أزال عنها غبار السنين المتراكم، وسلّمها إلى وزير دفاعه الموالي له يسرائيل كاتس، مُصدِرًا أوامره الصارمة بالشروع في تنفيذها. كانت تلك الخطة التي تحمل الاسم الرمزي «الأصابع الخمسة» بمثابة خارطة طريق للتدمير والتهجير.
منذ لحظة استئناف الحرب، يسعى الكيان المجرم بمنهجية واضحة إلى فرض واقع جغرافي وديموغرافي جديد في قطاع غزة، وذلك من خلال مسار متكامل لإعادة رسم الحدود الجغرافية للقطاع عبر الاستيلاء التدريجي والممنهج على مساحات شاسعة من أراضيه، وتحويلها بشكل قسري إلى مناطق عازلة تخدم أهدافًا عسكرية وسياسية، وتوظيفها كأوراق ضغط في أية مفاوضات مستقبلية.
وتتجه آلة الحرب الإسرائيلية نحو استهداف المستشفيات التي تمثل الملاذ الأخير والوحيد للمدنيين الفلسطينيين في غزة، في رسالة تتسم بالوضوح والقسوة معًا، تهدف إلى حصد أرواح أكبر عدد ممكن من السكان المدنيين العُزّل، وزرع الخوف والفزع في قلوب الناجين، حيث تعتبر هذه المنشآت الطبية في وعي السكان من أكثر الأماكن توفيرًا للأمان النسبي. فالرسالة الإسرائيلية واضحة لا لبس فيها: لا يوجد مكان آمن في أي شبر من قطاع غزة. ويترافق هذا الاستهداف مع حملة منظمة لقصف المؤسسات التعليمية، وتدمير مصادر المياه الحيوية، وفرض حصار محكم يمنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية، في استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة البشرية، ودفع سكانه الأصليين نحو التهجير القسري، تمهيدًا لتسليم إدارة المنطقة إلى السلطات الأمريكية.
تطرح «خطة الأصابع الخمسة» الإسرائيلية رؤية استراتيجية لتفتيت قطاع غزة وتقسيمه إلى خمس مناطق استراتيجية محددة: نادشاريم، بغلاسيم، موراج، فيلادلفيا، وممر صلاح الدين. ليتم تحويلها جميعًا إلى مناطق عازلة بعمق يتراوح بين كيلومتر وكيلومترين. وما يثير القلق البالغ في هذه الخطة هو اعتمادها على توظيف المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية، ولا تقف طموحات هذه الخطة عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل السيطرة الكاملة على القلب النابض للقطاع المتمثل في مدينة غزة، بالإضافة إلى استهداف المدن الشمالية الاستراتيجية المتمثلة في بيت لاهيا وبيت حانون، لما تمثله هذه المناطق من أهمية ديموغرافية وجيوسياسية.
ومن خلال هذه الاستراتيجية المحكمة، يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إحكام قبضته بصورة شاملة على مفاصل قطاع غزة الحيوية، مما يتيح له فرض سياسة التحكم الديموغرافي من خلال حصر المتبقين من السكان الفلسطينيين في مناطق جغرافية محدودة ومعزولة، ويمهد الطريق نحو سيناريو الاجتياح الكامل للقطاع في حال اتُخذ قرار باحتلاله بصورة فعلية ومباشرة. كما يهدف هذا المخطط العسكري المدروس إلى تقليص الخسائر البشرية في صفوف جيش الاحتلال عند اقتحام دباباته للمناطق السكنية المكتظة بالمدنيين، فضلًا عن إضعاف الفاعلية العملياتية للصواريخ المضادة للدروع التي تمثل أحد أهم عناصر المقاومة الفلسطينية في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية.
تتضمن هذه الاستراتيجية العسكرية الشاملة تطبيق خطة متعددة المستويات على المناطق الحدودية التي تعتبرها إسرائيل مصدرًا للتهديد الأمني، من خلال إقامة أحزمة أمنية عازلة داخل تلك الحدود، وتجريدها من أي وجود عسكري معادٍ، والانتشار المكثف للقوات العسكرية الإسرائيلية على طول الخطوط الحدودية، مع توظيف أحدث المنظومات التكنولوجية المتطورة للمراقبة والاستطلاع مثل أجهزة الاستشعار المتقدمة، وشبكات الكاميرات الحرارية، ومنظومات الرادارات عالية الدقة. وقد سبق أن طُبقت هذه الاستراتيجية بنجاح من وجهة النظر الإسرائيلية في الجبهتين اللبنانية والسورية، ويسعى نتنياهو بإصرار إلى استنساخ هذا النموذج في قطاع غزة. أما فيما يتعلق بالجبهات التي تصنفها إسرائيل «هادئة» كالحدود مع الأردن ومصر، فتكتفي بتمركز قوات ثابتة داخل الأراضي المحتلة، مع تعزيز منظومات المراقبة الإلكترونية للشريط الحدودي.
يتطلع نتن ياهو بشغف إلى تنفيذ هذه الخطة الاستراتيجية بهدف إعلان ما يصفه بـ»الانتصار الحاسم» على حركة حماس، متوهمًا أن مثل هذا الإنجاز العسكري سيشكل درعًا واقيًا له من الملاحقات القضائية في قضايا الفساد المالي والإداري المتعددة التي تلاحقه، وسيبعد عنه شبح المسؤولية السياسية والأخلاقية عن الإخفاق الاستخباراتي والأمني الذريع الذي وقع في السابع من أكتوبر. فهو يتوهّم، وفقًا لحساباته السياسية، بأن القادة الذين يحققون انتصارات عسكرية حاسمة لا تحاسبهم شعوبهم ولا مؤسساتهم القضائية. لكنه يتغافل عن حقيقة راسخة في القانون الدولي الإنساني، وهي أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم مهما تقادم الزمن، وستظل تلاحق مرتكبيها حتى تتم محاسبتهم أمام العدالة الدولية، مهما طالت المدة. وفي نهاية المطاف، قد يجد نتنياهو نفسه، بعد كل هذا الدمار والمعاناة الإنسانية، وقد لا يحصد سوى أصبع واحد من «أصابع» خطة المقبور شارون التي انتشلها من دهاليز النسيان...