عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Sep-2020

الدولة والتنوير*جمال الطاهات

 الدستور

لأسباب كثيرة، منها غياب فهم موضوعي متفق عليه حول العلاقة بين السلطة والفكر، يصر كلا من طرفي الحوار في مسيرة التنوير، المستنيرون وخصومهم، على مطالبة الدولة بأن تنحاز لهم. بالرغم من أن الدولة، ككيان موضوعي، ليس لها هوية فكرية تنويرية، او غير تنويرية، وإنما الأفراد في الدولة، قد يكون لهم انحيازات فكرية، مع قيم التنوير ومفاهيمه ومضامينه، او مع أنماط التفكير غير التنويرية. ولكن معيارية الدولة ومؤسساتها، تعكس المنجز الفكري المشترك، وتربط بين القيم العليا المشتركة، وبين المصالح الموضوعية لكل مكوناتها.    
إن زج سلطة الإكراه، التي تحتكرها الدولة، في الحوار الفكري، وفرض مواقف فكرية (تنويرية وغير تنويرية) بالقوة، محنة تاريخية، عاشها العالم العربي، وما زال يعيد إنتاجها. وهي تعبير عن خلل منهجي يعيشه كل من المستنيرين وخصومهم المفترضين. ويتلخص الخلل المنهجي بغموض هدف التنوير، والإخفاق بتعريف خصومه.
فالتضليل لا يأخذ شكلاً واحداً، وكل أشكاله لها هدف موحد (تغريب الناس عن حياتهم). فالخداع والوهم مروحة تقنيات واسعة، وهي تتسع باستمرار، ولها تجليات في كل مستويات الحياة، مضمونها تغريب الناس عن حياتهم. ولا يمكن حماية الناس من التضليل إلا بديمومة التصدي له. ولكن من الذي يتصدى له بشكل مستمر؟ هل هي الدولة؟ هل يمكن للدولة أن تحتكر مهمة التنوير؟ أو هل يمكن احتكار مهمة التنوير وقصرها على جماعة؟ هي يمكن إنشاء كهنوت أو معبد للتنوير؟ الدولة لا تستطيع موضوعياً، تحقيق وانجاز ما هو غير قابل للإنجاز. فالتنوير من حيث هو مسيرة مستمرة، يتناقض مع طبيعة عمل الدولة، التي تتلخص بضرورة تحديد بداية ونهاية لأي مشروع تتصدى له مؤسساتها.
بدأت مسيرة التنوير منذ قرابة ثلاثة آلاف عام، بقيام المستنيرين بخوض معركتهم ضد المغالطات وأشكال التضليل المختلفة (هدف واضح)، تجلى بتحصين الناس، حتى لا يتم تغريبهم عن حياتهم بالمغالطات. وقُدم عبر مسيرة التنوير المستمرة ملايين الشهداء، اولهم كان سقراط. ولم تتوقف المسيرة يوماً واحداً، فهي مستمرة، بين المستنيرين والضالين المضللين. وعلينا أن نتذكر أن التنوير ليس مشروعاً مؤقتاً، يمكن إنجازه عبر شركة مقاولات بالنيابة عن المجتمعات. هو جهد متصل ومستمر، وصراع دائم بين المستنيرين، في مواجهة من لهم مصالح يسعون لتحقيقها بالتضليل والخداع، وتوظيف المغالطات والاوهام لخداع الناس، وتغريبهم عن حياتهم التي يعيشونها.
التنوير نمط حياة، ونمط تفكير، وليس منجزاً يتحقق ببناء صرح نقدسه ونتمسح به. هو مسيرة مستمرة، ولا يتوقف عند حد. ومحاولة اختزاله بمنجز ما، تمثل تاريخياً، أخطر وسيلة شيطانية للتضليل والخداع. فمثل هذه المقاربة تقصي التنويرين، وتهمشهم، عبر الادعاء بأن المعركة مع التضليل والخداع قد انتهت، وتحول دعوات مشروع التنوير إلى كهنوت جديد، يقوم بتغريب الناس عن حياتهم اليومية بظروفها المتجددة. مواجهة التضليل والخداع مهمة أخلاقية للدفاع عن إنسانية الحياة، ستبقى مستمرة ما دامت الخليقة موجودة. وهي ميزة من ميزات المجتمع. فما دام التضليل قد حصل مرة، فهو قابل للتكرار بأشكال وتجليات كثيرة، ولا بد من الاستعداد الدائم لمواجهته ومنع تكراره أياً كان الشكل الذي يتبدى به.
فحين تتبنى الدولة التنوير، تحوله إلى وسيلىة للتغريب. فالمطلوب من الدولة، أن تمنع استخدام القوة في التنافس الفكري، لتمكن المستنيرين (إن وجدوا)، وخصومهم، من متابعة التنافس بين أفكارهم. ومهمة المستنيرين، عدم الاستسلام لوهم أن هناك من يستطيع تحقيق التنوير نيابة عنهم. فمع استمرار صناعة الجهل، وجهود التضليل، المطلوب ضمان الحرية الفكرية، للدفاع عن إنسانية الحياة، وعدم تغريب الناس عن حياتهم.