"رائحة الزينكو" لأبو لبن.. الذاكرة الفلسطينية في النص السردي
الغد-عزيزة علي
وقع الدكتور زياد أبو لبن أول من أمس، مجموعته القصصية "رائحة الزينكو" في جاليري رؤى 32، وأدارت الحفل الشاعرة زليخة أبو ريشة، وقدم الدكتور ناصر شبانة قراءة نقدية للمجموعة.
قال المتحدثون إن مجموعة زياد أبو لبن القصصية "رائحة الزينكو"، تبرز كمرآة حية للذاكرة الجماعية وللمعاناة الإنسانية في المخيمات، حيث تتقاطع حياة الواقع مع أفق الحلم، ويصبح الألم دافعا للإبداع، والخوف من النسيان سببا للكتابة.
وسلط المشاركون الضوء، على أبعاد النص السردي والجمالي للمجموعة، بدءًا من بروز حاسة الشم كرمز للبقاء، مرورًا برمزيات "الزينكو" التي تحكي عن صفيح البيوت البسيطة وواقع الفلسطيني الطارئ، وصولا إلى لغة المجاز والصورة الفنية، التي توظفها النصوص لإعادة إنتاج ذاكرة المكان والإنسان.
رصاصة في معركة الوعي
رأى الدكتور ناصر شبانه، أن مجموعة "رائحة الزينكو" جاءت كرصاصة في معركة الوعي ضد المأساة. يتتبع تفاصيل المخيم وحياة تتسرب كالماء العكر من شقوقه. تتقدم حاسة الشم على باقي الحواس، فهي الأقل عرضة للتشويش وأكثر التصاقا بغريزة البقاء، كأن إنسان المخيم لم يبق منه سوى هيكله الخارجي.
وأشار إلى أن عنوان المجموعة، تتصدره كلمة "رائحة" العنوان وتكرر في قصص مثل "رائحة البؤس"، "رائحة المخيم"، مؤكدة دلالة العنوان الرئيس. فـ"رائحة الزينكو"، هي رائحة المخيم، التي تمثل بدورها البؤس والحرمان، وتتردد في النص للدلالة على روائح الألم، الانتظار، الدخان، مقابل روائح الرغيف والمجاري.
أوضح شبانه، أن كلمة "زينكو"، كلمة أعجمية وتعني الصفيح المستخدم لتسقيف البيوت البسيطة بدل الخيام. فهل للزينكو رائحة؟ هذه المادة غريبة على حياة الفلسطيني، فرضها الاستعمار وغيرت نمط عيشه.
وهو معدن مضلع أملس يسمح بانسياب الماء، لكنه لا يقي من حرارة الصيف أو برد الشتاء، بل يضاعف قسوتهما. ورغم افتقاده للرائحة الحقيقية، تفوح منه رائحة مجازية للبؤس والموت والمخيم. مبينا ان تلك الرائحة تستحضر صورًا تختصر المشهد الفلسطيني: "المفتاح، البقجة، حبل الغسيل، اللوكس أبو الشنبر، حنفيات الغضب، طابور الحليب، باب الطحين، الطوبة الناقصة، وعربة الكاز وغيرها".
رؤية إنسانية من قلب العتمة
وأضاف شبانه، أن القاص رغم رسمه البؤس، يبذر بذرة أمل في كل قصة ويترك بصيص حلم في نهايتها، ليبقى القارئ متطلعا إلى الأفق. وتتحقق هذه الرؤية بلغة مجازية رشيقة، بعيدة عن التقريرية، تحتفي بالصورة الفنية وتوسع المعنى وتقلب معادلة الواقع.
ورأى، أن أبو لبن يجمع بين شخصيته الواقعية التي عايشت الأحداث وضميره القصصي كراوٍ مشارك، ما يمنح نصوصه صدقًا فنيًا وواقعية نابضة بالتفاصيل، ورؤية إنسانية تبشر من قلب العتمة وتنظر إلى الشمس من نافذة الظلام.
أما الإهداء في المجموعة، فهو ليس مجرد تحية، بل سيمياء عددية مهمة؛ حين يهدي القاص مجموعته إلى أمه وأبيه وإخوته التسعة، يشير العدد أحد عشر إلى الأسرة الفلسطينية الكبيرة، بما يعكس الاكتظاظ في الخيمة وقسوة الحياة، وفي الوقت نفسه، يدل على حب الحياة والخصوبة كوسيلة للبقاء والدفاع عن الأرض، سلاح ديموغرافي لا يُقهر.
تعتمد معظم القصص على ضميري "الأنا" و"نحن"، متغيبة ضمائر الغياب، ليكون القاص حاضرًا كشاهد مشارك، ما يمنح النص مصداقية ومباشرة ويجعل الحدث مستمرًا، ليس فرديًا فقط، بل معبرًا عن تجربة جماعية تمثل معاناة الشعب الفلسطيني بأسره من التهجير.
استخدام ضمير المتكلم الجمعي، منح الراوي صفة المشاركة في الأحداث، فصار راويًا فاعلًا يصنع الحدث، يشتبك معه، ويعاني ويعلق، بدلا من أن يكون مجرد ناقل حيادي، ما يمنح القصة طابع السيرة الذاتية.
تجربة معاناة اللاجئ الفلسطيني
وقال "إن أبو لبن يغمس قلمه في مداد الواقع دون تشويه، ليس لنقص الخيال، بل لبناء نص ينتمي لأدب المقاومة، حيث يقتصر الخيال على اللغة والمجاز، بينما تظل الشخصيات والأماكن والأحداث واقعا كما عاشتها الذات الساردة".
يمتلك السارد ذاكرة حديدية تمكنه من استرجاع الأحداث والتقاط المشهد بتفاصيله كما حدث، ليقدم للقارئ تجربة معاناة اللاجئ الفلسطيني بدقة، حيث تعد التفاصيل صغيرة جزءًا من الذاكرة الجمعية التي يحاول العدو محوها.
وبذلك، تقترب القصص من السيرة الذاتية بمقوماتها الثلاث: الصدق، الصراحة والموضوعية، لتشكل مشهدا سيريا للذات الفلسطينية الجماعية. استخدم القاص لغة بسيطة قريبة من العامية مع تشبيه مركّز، ووازن بين السرد والوصف والحوار الحي، فأصبح النص مباشرًا، مع إبراز التفاصيل الصغيرة التي تحمل رمزية كبيرة، مثل المفتاح الذي ليس مجرد أداة، بل رمز العودة والذاكرة الجمعية.
وخلص شبانه، إلى أن هذه المجموعة استطاعت أن تتفرد بذاتها وتشكل إضافة نوعية لتجربة زياد أبو لبن، إذ عملت على شحذ الذاكرة الجمعية وإحياء النسيان، لتبقى جذوة المقاومة متقدة، وتظل الخيم وبيوت الصفيح شواهد على مأساة ممزوجة بالأمل تعيد حلم العودة إلى المشهد.
من جانبه قال المؤلف د. زياد أبو لبن "حين شرعت في كتابة "رائحة الزينكو"، عدت ليس إلى الورق فحسب، بل إلى نفسي، إلى المخيم الذي تتقاطع فيه الذاكرة مع الحلم، حيث يصبح الفقر شكلًا من الكرامة، والصفيح سقفًا للوطن المؤجل. لم أكتب المجموعة مجرد قصص، بل سيرة مبطنة تتخفى فيها حياتي في وجوه أطفال الحكايات ونسائها ورجالها.
حكايات لا تروى بالكلمات
وأضاف أن كل قصة نافذة على ماضٍ ما يزال يتنفس بين شقوق الذاكرة، كالرطوبة في جدار لم يرمم بعد. في المخيم تعلمت أن الكرامة ممارسة يومية، وأن الصبر ضرورة للبقاء. كانت الخيمة مدرسة البلاغة: بلاغة العوز، وبلاغة المشاركة، وبلاغة الأمل.
وتابع أبو لبن كطفل، ظننت أن سقف "الزينكو" يحمي من المطر، لكني أدركت لاحقًا أنه يحفظ سر العائلة، جامعًا أصواتنا وأنفاسنا تحت المعدن البارد الذي يسخن بالضحك ويبرد بالخوف. تحت ذلك السقف نشأت حكاياتي الأولى، حكايات لا تُروى بالكلمات، بل بالعيون التي تتبادل الصمت في الليل الطويل.
الكتابة عن المخيم بذاكرة جماعية
وقال "الكتابة بدأت محاولة للتخلص من وجع شخصي، لكنها تحولت إلى تسجيل المخيم داخليا وخارجيًا، موثقة وجوه الغائبين ولحظات صغيرة: ضحكة، خبزة، رائحة الغبار بعد الحزن".
وأضاف لم أبحث عن حزن أنيق، بل عن صدق قاسٍ يشبه نَفَس الزينكو تحت الحرّ. ومع الألم، حاولت القصص أن توازن بين الفجيعة والنبض، بين الموت والحياة التي تصر على أن تنبت. وأضاف "كنت أبحث عن توازن بين الجمال والصدق، بين الرهافة والتوثيق. فالكتابة عن المخيم ليست مجرد وصف للمكان، بل تسجيل ذاكرة جماعية تتجاوز الكاتب، تتطلب أمانة لا تقل عن أمانة التاريخ. أردت لغة تشبه الناس الذين أحببتهم: بسيطة كملامحهم، عميقة كصبرهم، مشعّة كابتسامتهم رغم الجراح".
وخلص إلى أن المجموعة في جوهرها، صرخة في وجه النسيان؛ الكتابة فعل بقاء، والحكاية تحرس المكان حين يُمحى من الخريطة. كل قصة كانت وصية للأجيال القادمة، صلاة صغيرة للذين لم يعودوا. أردت أن يكون الأدب أرشيفا للروح الفلسطينية، و"رائحة الزينكو" وثيقة وجدانية تشهد أن الكلمة تصير بيتا بديلًا، وسقفا لا يصدأ مهما اشتد المطر.