القدس العربي - ما وضع العرب حاليا، على مستوى التنمية البشرية وصنع قرارات العالم، بل ماذا سيكون وضعنا، إن توقف من يزودنا بحاجياتنا من الخارج؟ لنبسط السؤال وبطريقة تربوية أكثر، هل من الممكن أن نعيش بدون الاعتماد على الغير؟ صحيح، كل دول العالم قد تحتاج إلى غيرها بشكل أو بآخر، على مستوى التصنيع والتجارة، إلخ، لكن قصدي من هذه الأسئلة الجارحة والضرورية، أن الكل سيحضر جوابا جاهزا مفاده، إننا وإلى حد الآن ما زلنا، وكما كنت أسمع في ستينيات القرن الماضي، نستهلك من الإبرة إلى الطائرة، مرورا بما بينهما من حاجيات متعددة توجد في رفوف مؤسساتنا الاقتصادية والجامعية والإدراية وبيوتنا وشركاتنا، إلخ.
ما وضع العرب الحالي؟
أكيد، هو وضع لن يختلف حوله اثنان، بل لن «نتناطح»، إن دعينا ـ على سبيل التمثيل لا الحصر- إلى برنامج تلفزيوني أو إذاعي، الخ، وسئلنا عن طبيعة زمننا العربي. سنتفق ونقول عنه العديد من الأشياء مثل:
– زمن الفشل في العديد من أوجه التقارب السياسي.
– زمن الفشل العلمي البحثي.
– زمن الفشل في تحقيق أرقام حقيقية لتطوير قدرات مجتمعاتنا ديمقراطيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا…
– زمن الاستهلاك والبحث عن احتلال مكانة «جميلة» ومفرحة للمصدر الغربي وغيره.
– زمن التناطح المذهبي والفقهي والطائفي، حد رفع الأسلحة في وجه بعضنا بعضا وقتل بعضنا بعضا، بمباركة غربية غايتها، تجريب الأسلحة المصنعة في لحمنا ودمائنا وأنفاسنا وشجرنا وحجرنا ومائنا، إن بقيت منه بعض المياه العذبة الصالحة للشرب لأجيال المستقبل.
– زمن التيه والعزف على أنشودة تقوية الجدار الإسمنتي والشائك والتكنولوجي المستورد، والفاصل بيننا، في زمن نجد فيه العديد من الدول ما يفصلها خط مرور أبيض. حدود مغلقة بقوة سمك هذا الجدار، حيث للطيور والأفاعي، الخ، الحق في المرور، لكن وحده المواطن العربي، لاحق له حتى يثبت أنه «بليد» وراغب فقط في «قطعة» خبز بدون جبن أو زيت.
– زمن «جماليات» الحماقات: حيث نقرأ كل يوم، وربما كل ساعة، ما يفيد أننا فعلا نغلق الأبواب في وجوه بعضنا بعضا، وبإملاءات خارجية وكما رسم لها تماما بدون تغيير أو تعديل ولو لغرض إنساني.
– زمن رسخت فيه صور المسؤولين، وهم يتعانقون في مؤتمرات دبج فيها العديد من القرارات… معظمها أرشيف اليوم في مكاتب قد تكون رائحة الورق القديم فيها بدأت تصيب من يدخلها بمرض الحساسية.
زمن من لا زمن له. زمن البعض يرى أن ماضي»نا» خلاصنا. زمن يرى فيه البعض الآخر، أن مستقبل «نا» هو الآتي. زمن يرى فيه البعض إمكانية الجمع بين الزمنين معا، ومن ثم وصفة/خلطة صالحة لنا للسير نحو الأمام… قيل وقيل ما ظهر وخفي، لكن، لكل ليلاه التي لا حياة له من دونها. ماذا تبقى من «الجسر» الذي هدم هناك… هل نعيد بناءه ونرممه ونصبغه لكي نقدمه للعالم، قائلين: ها هو جسر العرب الجديد؟ أم ما علينا إلا خلخلته ككل، وإعادة بناء جسر آخر بمواد جديدة قوية وقابلة لكل المتغيرات المناخية القوية التي تضرب في المهد واللحد، كل من يرغب في بناء جسره الجديد وبإمكانياته هو، لا بإمكانياتهم هم؟ قيل وقيل… وسيقال الكلام الكثير، لكن لنجرب قولا بسيطا مفاده ما يلي: اهتزاز الصورة، يفرض تشريحها وتشخيص/معرفة أسباب الاهتزاز، ومن ثم التوصيف الدقيق لعلاج مفيد للجسم/الجسد المعلول والمنهوك حد تحويله إلى «أضحوكة» وصورة نمطية قاهرة للذوق والإنسانيات، مع العلم، أن الكل مرّ من جسر الأضحوكة، مهما كان الازدهار اليوم. لابد من اكتمال الصورة المشروخة، لتحقيق «قمة» التخلف، لكونه مدخلا للخلخة والبحث عن سبل الرقي.
من الصعب التغلب على حماقات التخلف، بدون «حماقات» التقدم. لنجرب، وصفة الإبداع، بل، لنجرب وصفة الثقافة.
قل لي وببساطة إن عالمنا العربي الجريح بثقل السياسة السياسوية، ما زال بعيدا عن السير في طريق النضج التنموي الحقيقي بدون جعل الثقافة رهانات حقيقية
– ثقافة إيه يا صديقي؟
– أحمق أنت؟ هل كتابة الرواية قادرة على انتشالنا من صفوف من يستهلك بدون أن يصنع ولو ثقب الإبرة؟
آه نعم، صحيح . «الروائي» رجل مبدع يكتب ما يحس به اتجاه ذاته والآخر والعالم ككل، ولن «يقدمنا» ولو لشبر واحد لنقترب ممن له معدل التنمية.
– لكن كيف يمكن للإبداع أن يقدمنا يا صديقي؟ أو لنوسع الدائرة، وعنوان مقالتنا، الثقافة ورهانات العربي، نحو جملة اسمية ثابتة مفيدة هي كالتالي:
– الثقافة وحدها ما تبقى لنا نحن العرب، من البحر إلى البحر.
– أنتم العرب، علينا «قذفكم» إلى قاع البحر، ليتخلص العالم منكم…
هكذا قيل في لقاءات إعلامية وعلى الهواء، حتى تمرر رسالة التشكيك في النفوس، ومن قالها كان يعي فعلا أنه «محقق» لنصر «عظيم» على العرب في «حروب» عديدة هنا وهناك…حروب اقتصادية وعسكرية وغيرها…
– زمن عربي لا بد منه، رد صديقي…هي دورة خلدونية، يمر منها الجميع، لن يذهب شعر محمود درويش وسميح القاسم وأحمد المجاطي ومحمد بنيس، ولائحة الشعراء طويلة من البحر إلى البحر… هباء منثورا على رمال تائهة هنا وهناك.
– زمن الثقافة لم يجرب بعد، هي ذيل الاهتمامات، لكونها منبع النور الذي سيزيل الغشاوة عن العيون، ويجعلنا نبصر تفاصيل «الحماقات» ونعرف «متعة» التخلف، أين هي وكيف نعالج «تلذذها».
– أتركنا من حديث السياسة يا صديقي… هي ترعبني وتخيفني، لكوننا جربناها كثيرا وانتظرنا شفاءها، ويبدو أنها مجرد متاهة من المتاهات.
– لكن كيف نعيش يا صديقي دونها؟
– صح هي ضرورة …لكن إن ارتكزت على عمود الثقافة.
– العمود؟ وما العمود؟ لكل سياسة عمودها. وعمود العرب في السياسة متعدد الأوجه بدءا مما يكتب في العمود الصحافي في الجهة اليمنى أو اليسرى للجريدة، مرورا بعمود الخيمة وعمود الكهرباء المائل هنا والغائب هناك، وعمود الفقيه في الكتاب القرآني الذي مازال رنينه مدويا في أذني اليسرى.
– هي هلوسات يا صديقي، لا تصلح مقالا للنشر، لأنها ستصيب القارئ بـ«مرض» التأويل الذي لم تعلمه مدرستنا العربية لنا طيلة «احتضانها» لنا.
– ضحك وقال: ها قد نطقت بها: التأويل.
– قل لي وببساطة إن عالمنا العربي الجريح بثقل السياسة السياسوية، ما زال بعيدا عن السير في طريق النضج التنموي الحقيقي بدون جعل الثقافة رهانات حقيقية… ضحكنا واحتسينا ما تبقى من شاي وماء، لأن عادتنا بعد نهاية نقاشاتنا أن «يتجرع» كل واحد منا ما تبقى في كأسه من «جغمة» قد تكون باردة بفعل برودة الطقس، أو ساخنة بفعل غياب آلة التبريد التي لم نصنعها، بل استهلكناها فقط. ضحك وقال لي سنعود إلى نقطة الصفر: «جاني الجوع…».
٭ باحث/ناقد سينمائي مغربي