”سفر أعمال المنسیین“.. استعادة رومانسیة لذاکرة الثورة الجزائریة
عمان -الغد – ینسج الكاتب الجزائري عبد الوھاب عیساوي روایتھ ”سفر أعمال المنسیین“ في صلب سؤال الذاكرة الوطنیة الذي یظل جمرة مشتعلة في راھن الدولة والمجتمع، ببلاد الملیو شھید.
الروایة التي توجت بجائزة كتارا للروایة العربیة في فئة ”الروایات غیر المنشورة“ وصدرت حدیثا ضمن منشوراتھا، تكتب، بحسب (الجزیرة. نت)، زمنا وطنیا سیاسیا مفتوحا بین مرحلة حرب التحریر بتضحیاتھا وأحلامھا ووعودھا، ومرحلة الدولة المستقلة بخیباتھا وأوھامھا ومنسییھا.
أما المنسیون الذین تروم الروایة رد الاعتبار لسجل ملاحمھم، فیختار عبد الوھاب عیساوي - تجسیدا لھم- أیقونة مغرقة في الألم والصمت الأبلغ من كل صوت. إنھا جثمان ”عباس“ ذلك الشھید الذي سقط على ساحة الشرف، وظل حتى الیوم عالقا في جرف عمیق ینتظر تحركا رسمیا لانتشالھ، وبالتالي نزع شوكة تعرقل مسیر البلاد المدعوة إلى تحریر مستقبلھا عبر الوفاء لذاكرتھا.
ھي روایة تتوغل بمشھدیة ملحمیة في یومیات الكفاح المسلح من أجل الحریة، تكتب محنھا
وأمجادھا، تفكك حلقاتھا وتستعید سیر رجالاتھا، غیر أنھا تظل مع ذلك روایة الراھن واللحظة
بامتیاز، ذلك الراھن الذي تحضر أعطابھ مضمرة في خطیئة النسیان التي اقترفت في حقفرسان الحریة الذین كانوا حطب استقلال لم یحقق وعوده.
أما الكاتب فیرى في تصریحات للجزیرة نت أن الروایة لا تحمل مساءلة للحاضر بقدر ما كانت احتفائیة بتلك المرحلة، لأنھا كتبت تحت نظرة رومانسیة لذلك الزمن.
یستدرك بالقول ”ربما لو عاد بي الزمن لفترة كتابتھا لسارت في نسق مختلف، ولكن في كل الأحوال ھناك سؤال مھم یتعلق باختلاف طریقة تفكیر الفرد بین الزمنین. في تلك الفترة كان ھناك موضوع واحد یتعلّق بالحریة، وبالتالي ھناك عدو واحد، والآن نحن أعداء بعض، بصفات كثیرة ولعل أولاھا الشرعیة الثوریة“.
وعن ذلك البطل المأساوي المستتر، الذي یجسده الشھید ”عباس“ بجثمانھ المھجور دون قبر یلیق
ّ بھ، یقول عیساوي ”ربما یكون جثمان الشھید ھو القیم الثوریة الحقیقیة التي تخلى عنھا من قدم الاستقلال للجزائر، إذ وبعد أكثر من خمسین سنة ما یزالون یتكلمون باسمھ دون أن یقدموا مشروعا ناجحا على المستوى الإنساني أو حتى الاقتصادي للجیلین اللذین جاءا بعد الاستقلال“.
تبدأ الروایة -التي تقع في 335 صفحة، بغلاف للفنانة فاطمة النعیمي- في الحاضر وتنتھي فیھ؛ تبدأ حینما یتسلم ”عیسى فراج“، ابن مدینة الجلفة، رسالة من رفیق السلاح الذي أصبح وزیرا، ”النوري“، تتضمن قرارا بالعزم على تنفیذ عملیة انتشال جثمان رفیقھم في حرب التحریر ”عباس“، وتنتھي بخاتمة مفعمة بالمشاعر المتضاربة لعیسى واقفا على الجرف أثناء بدء عملیة الانتشال.
یكاد عبد الوھاب عیساوي یلبس قبعة سینمائي، وھو یوظف تقنیات ”الفلاش باك“ لصنع زمنین لا یتعاقبان بل یتداخلان ویتعایشان. تصویر المعارك والتحركات المسلحة في الأعالي والغابات یعكس ثقافة بصریة عمیقة، بحیث تبدو المواجھات موثقة ببعد تسجیلي حي، وبتقطیع مشھدي أقرب إلى عملیة إخراجیة في تصور الفضاء الطبیعي ورسم حركة الشخصیات وترتیب مراحل التأزیم والانفراج بإیقاع مدروس.
یقدم الكاتب عناصر إیجابیة عن ھذا العمق البصري في الروایة. ”ببساطة لأنني استعنت بأفلام وثائقیة ومذكرات عن مقاومین عاشوا یومیات ھذه المرحلة ودونوھا. في الفترة الأخیرة بدأت تطبع ھذه المذكرات لذا اھتممت بھا أكثر من كتب التاریخ التي تناولت المرحلة“.
یصب عیساوي تجربتھ في نھر روائي ممتد، منبعھ ذاكرة الثورة الجزائریة، التي قدمت لأجیال الأدب الجزائري عبر ما یناھز ستة عقود مادة خصبة لمساءلة الحدث التاریخي من جھة، تمجیدا أحیانا ونقدا أحیانا أخرى، أو لمساءلة الراھن من بوابة ذلك الماضي الطافح بالأحلام والوعود التي طال انتظارھا، وفاء للدماء التي سالت في حب الوطن.
وإن كان من الطبیعي أن تحضر ھذه المرحلة في نصوص الرواد من قبیل كاتب یاسین ومحمد دیب ومولود فرعون ورشید بوجدرة، والطاھر وطار ومولود معمري وواسیني الأعرج، فإن الموضوع ظل یفرض نفسھ في النصوص الجدیدة لشباب ولدوا بعد الاستقلال مثل عیساوي (34 عاما).
استمراریة لا تحجب تعددیة المقاربات وزوایا التناول، لكنھا تعكس إجمالا ثقل العلاقة مع الذاكرة في البنیة العمیقة للدولة والمجتمع الجزائریین. لقد أفرزت العشریة السوداء غمامة داكنة استبدت بوعي النخب المثقفة والمبدعة، لكنھا لم تصنع ذاكرة بدیلة، بل لعلھا حملتھم على الحفر أكثر في صفحات مسیرة التحریر الوطنیة، لمحاولة فھم المآلات المأساویة التي أفضت إلیھا.
ّ ویورد فاید محمد في دراسة بعنوان ”الروایة والذاكرة الوطنیة.. حوار الأدب والتاریخ “ عن الناقد مخلوف عامر قولھ إن الروائي الجزائري وجد نفسھ ”بین فكي كماشة: صورة الماضي ّ القریب، وصدمات الواقع المتحو ُ ل، فكان یلتفت إلى الماضي لیستحضر حرب التحریر یسائلھا طورا، ویتلذّذ بذكرِ ھا أطوارا“.
ھذه العودة تطرح بالنسبة للروائي سؤال الحدود بین المتخیل والتاریخي، وھو من أصعب الأسئلة التي تواجھھا الروایة التاریخیة، حسب عیساوي الذي یؤكد أن ”الرؤیة العامة لھذه الروایة تكاد تكون حقیقیة في أغلب أحداثھا، أو في إطار إمكانیة الحدوث، لأن الروایة التاریخیة ھي في الأخیر إمكان منجز على حد تعبیر میلان كوندیرا“.
جدیر بالذكر أن تتویج كتارا لیس الأول في مسار الكاتب الشاب، الذي صدرت لھ مؤخرا روایة ”الدیوان الإسبرطي“. فقد حاز الجائزة الأولى للروایة في مسابقة رئیس الجمھوریة (2012( عن روایتھ ”سینما جاكوب“، وفاز بجائزة آسیا جبار للروایة، الأعلى في الجزائر، عن ”سییرا دي مویرتي“ (2015 ،(كما حصلت روایتھ ”الدوائر والأبواب“ على جائزة سعاد الصباح .(2017)