الغد
دونالد ماكنتاير* - (الإندبندنت) 2025/3/31
يعكس تصاعد الاحتجاجات والاضطرابات في تركيا وإسرائيل صراعاً ضد الاستبداد، حيث يمارس كل من أردوغان ونتنياهو سياسات قمعية تهدد الديمقراطية، مما يهدد استقرار الشرق الأوسط والديمقراطيات الهشة في العالم كله.
ما يقدمه لنا عشرات آلاف المحتجين الذين تحدوا الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل والرصاص المطاطي والاعتقالات الجماعية بغية المشاركة في تظاهرات ليلية تنديداً بتوقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو واعتقاله، هو درس عملي يصور الكفاح من أجل صون الديمقراطية التي تتعرض لتهديد متصاعد في تركيا، وغيرها من الأماكن.
كما نستقي هذا الدرس أيضًا من إعلان الملايين من مناصري "حزب الشعب الجمهوري" ذي التوجهات العلمانية بشكل عام الذي ينتمي إليه رئيس البلدية خلال عطلة نهاية الأسبوع، عن تأييدهم ترشيحه في الانتخابات الرئاسية في مواجهة رئيس البلاد الحالي، رجب طيب أردوغان، وهي انتخابات يترقبونها بشغف.
إن ما هو على المحك في محاولة إلغاء الخصم السياسي الرئيسي لا يقتصر على مستقبل أردوغان، الذي يصبح أكثر استبداداً بشكل مطرد خلال 22 عاماً هيمن فيها على السياسة التركية، أولاً كرئيس للوزراء ثم كرئيس، بل ستكون نتيجة الأزمة الحالية كفيلة بتحديد ما إذا كانت تركيا ستبقى ديمقراطية انتخابية حقيقية كما كانت منذ فترة طويلة، أو أنها ستبدأ في محاكاة دول أخرى (مثل روسيا) حيث تجرى انتخابات، لكنها ليست سوى مهزلة.
كانت مزاعم الفساد التي ألصقها نظام أردوغان بمنافسه الرئيسي -ووصفها إمام أوغلو بأنها "اتهامات وافتراءات لا يمكن تصديقها"- لتصدق بعض الشيء لو لم تسبق عملية توقيف الرجل حملة قمع طويلة طاولت شخصيات المعارضة. وشملت هذه الحملة اعتقال ستة رؤساء بلديات آخرين منذ الانتخابات البلدية التي جرت العام الماضي وألحقت أسوأ هزيمة بـ"حزب العدالة والتنمية" الحاكم وزعيمه أردوغان، على خلفية ارتفاع التضخم ومعدلات الفائدة، إضافة إلى ما تشهده البلاد من تقويض لحقوق الإنسان برأي عدد كبير من منافسيه. وقد تم الإعلان عن ترشيح إمام أوغلو للانتخابات الرئاسية على الرغم من اعتقاله قبل ذلك بأيام.
برز عزم أردوغان على ضرب المعارضة بيد من حديد، لا سيما من خلال قرار حكومته تمديد الحظر على الاحتجاجات. وأعلن وزير الداخلية التركي اعتقال 1.133 متظاهراً منذ احتجاز أمام أوغلو مؤخرًا، واتخاذ إجراءات قاسية في حق وسائل الإعلام أفضت حتى الساعة إلى اعتقال 10 صحفيين لمجرد قيامهم بتغطية هذه التظاهرات.
بينما يجهد أردوغان في قمع الغليان الداخلي، ربما يستمد بعض القوة من نجاح بلاده النسبي في الخارج. فقد تمتعت "هيئة تحرير الشام"؛ الجماعة الإسلاموية التي أطاحت ببشار الأسد في سورية، بدعم كبير من تركيا. ومن جانب آخر، قد يكتسب وجود تركيا كحليف في "الناتو" أهمية متزايدة بالنسبة لأوروبا في ظل انحسار الدعم الأميركي لأوكرانيا (مع أن ذلك لم يمنع المستشار الألماني أولاف شولتز من إدانة اعتقال إمام أوغلو واعتباره مؤشراً سيئاً جداً بالنسبة للديمقراطية في تركيا وبالنسبة لعلاقاتها المستقبلية بالاتحاد الأوروبي).
لكن الأهم من ذلك أنه ربما يستمد هذه الجسارة من موقف دونالد ترامب المتراخي تجاه الزعماء ذوي الميول الاستبدادية. ففي مقابلته التي تطرقت إلى شتى المواضيع مع "فوكس نيوز" الثلاثاء الماضي، لم يكتف مبعوث ترامب الخاص، ستيف ويتكوف، بالكلام عن بوتين بنبرة فيها دفء مفاجئ، بل أفاد بأن الرئيس الأميركي أجرى محادثة "رائعة" و"تبشر بتغيير" مع أردوغان يوم الأحد السابق، وتوقع "سماع أخبار إيجابية كثيرة" جراء المحادثة.
هنا نجد تشابهاً مفاجئاً مع جهة أخرى تعتبر عادة الديمقراطية الوحيدة الأخرى الفعالة في الشرق الأوسط: إسرائيل. فقد طغت أنباء الاضطرابات في تركيا على أنباء التظاهرات التي خرجت ضد رئيس وزراء إسرائيلي يستمد هو الآخر جسارته من ترامب. وقد احتشد عشرات آلاف المتظاهرين في جميع أرجاء البلاد مساء الأحد الماضي. كما تعالت هتافات "ديمقراطية" مرة أخرى يوم الاثنين الماضي في القدس، تنديداً بإقالة نتنياهو الموظفين الحكوميين المستقلين ورفضه إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين في غزة من خلال إنهاء حرب استمرت 17 شهراً.
صحيح أن الإسرائيليين الذين أرهقتهم الحرب وزيادة عنف الشرطة في تعاملها مع التظاهرات، ونجاح نتنياهو التام في تشديد سطوته على النظام السياسي الإسرائيلي، لا ينزلون إلى الشارع بأعداد كبيرة اليوم مقارنة بحجم مشاركتهم الضخم في تظاهرات العام 2023، في بداية انطلاق خطته الرامية إلى تقييد المحكمة العليا، الجهاز الوحيد الذي يملك صلاحية ضبط السلطة التنفيذية وموازنة عملها. لكن الاندفاع الذي أظهره المشاركون في الاحتجاجات يشير إلى أن دواعي احتجاجهم اليوم أصبحت أكثر إلحاحاً من السابق.
لا شك في أن حالتي نتنياهو وأردوغان تختلفان. فنتنياهو لم يسجِن قادة المعارضة، لكن رغبته الشديدة في التمسك بالسلطة بأي ثمن، تماماً كنظيره التركي، جعلته يتخذ خطوات أخرى يُنظر إليها إجمالاً داخل إسرائيل على أنها قد تؤدي إلى تقويض -أو حتى "تدمير"- نظام البلاد الديمقراطي.
وكان الأسبوع الماضي مهماً جداً في هذا الإطار، إذ بعد الغضب العارم الذي أحدثه في الساحة السياسية بقراره طرد رئيس جهاز الاستخبارات "الشاباك"، صوتت حكومته المنبطحة يوم الأحد الماضي لمصلحة طرد غالي بهراف ميارا، المستشارة القضائية للحكومة والعضو الوحيد الشجاع في حكومته التي اعترضت (من بين أمور أخرى) على قانونية خطوة طرده.
كان نتنياهو، الذي استبقى إلى جانبه أكثر شريكين عنصريين ومتشددين في ائتلافه الحكومي، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لمجرد استئنافه حرباً مدمرة على غزة أودت بحياة أكثر من 50 ألف فلسطيني حتى الساعة، في تحد لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم من طريق التفاوض ورغبة الغالبية في إسرائيل، يأمل في تمرير موازنته المهمة من خلال الكنيست. وقد يمهد نجاحه في هذه المهمة البدء بسن تشريعات -على الأرجح بدءاً من الخميس المقبل- تطلق مسار تقييد سلطات المحكمة العليا واستقلاليتها وتسييس النظام القضائي.
في معرض حديثنا عن الديمقراطية، تجدر الإشارة إلى نجاح نتنياهو في صد مناشدات جو بايدن للموافقة على ضرورة أن تفضي حرب غزة إلى فتح مسار إلى قيام دولة فلسطينية، حيث إن زعم إسرائيل بأنها ديمقراطية حقيقية في وقت يحرم فيه 5 ملايين فلسطيني يعيشون تحت سيطرتها التامة منذ 58 عاماً من حقوق نعتبرها نحن -كما الإسرائيليون- من المسلمات، هو أمر مطروح للنقاش. ولكن على أي حال، ما عاد هذا الضغط يمارس عليها أساساً بوجود ترامب في البيت الأبيض.
صحيح أن تركيا وإسرائيل مختلفتان كثيرًا، ولكن في الوقت الراهن تخوض شرائح واسعة من الرأي العام وحدها في المكانين معركة للحيلولة دون الانزلاق نحو حكم الاستبداد المطعم بالانتخابات. وإذا فشلت هذه المساعي، فإن العواقب ستكون وخيمة عليهما، وعلى الشرق الأوسط، وعلى الأنظمة الديمقراطية الهشة في كل مكان.
*دونالد ماكنتاير Donald Macintyre: صحفي وكاتب بريطاني مستقل، عمل سابقًا كمحرر سياسي ومراسل خارجي لصحيفة "الإندبندنت". انضم إلى الصحيفة في العام 1986، حيث شغل مناصب متعددة، منها محرر سياسي ومعلق سياسي رئيسي. في الفترة من 2004 إلى 2012، كان رئيس مكتب الصحيفة في القدس، حيث غطى الأحداث في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.