عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Mar-2020

كورونا المتأرجح بين المشهد الإعلامي وقيود المعرفة* د. بليغ حمدي إسماعيل
ميدل ايست اون لاين -
لست من هؤلاء المصريين الذين تندروا من مشهد خروج المئات من أهل محافظة الإسكندرية المصرية في مظاهرة تنديد واستهجان لوجود فيروس كورونا الجامح والجائح أيضا على أرض المحروسة، كذلك لست ممن هرولوا إلى فكرة التجاء المواطن البسيط إلى الدعاء والرجاء إلى الله من أجل أن يغادر الفيروس اللعين أرض المحروسة العامرة، هذا التوجه الاستثنائي بعض الشئ مفاده رصد التصعيد الإعلامي المحسوب على جماعة الإخوان المنحلة والمحظورة بحكم القانون المصري ضد النظام الحاكم القائم في مصر، وربما تنتهز الجماعة بقنواتها الإعلامية وكتائبها الإلكترونية أية فرصة ممكنة في مصر من أجل النيل من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أو بالمصريين غير المؤيدين أو المنتمين لفكر الجماعة وتوجهاتها.
 
هذا ما حدث بالفعل، فقبيل خروج المواطنين في مظاهرات التكبير وهم بالضرورة ليسوا جميعا من مريدي وأتباع الجماعة وأنصارها بل أغلبهم ممن ينطبق على توصيفهم (الولع بالفرجة) وهي عادة مصرية ضاربة في القدم، كثرت واشتعلت بل واضطرمت نيران تصعيد خروج المواطنين للشارع في تظاهرات في أثناء زمرة توهج الانشغال بفيروس كورونا واستغراق ملايين المصريين في الحديث عن أعراضه وخطورته، لذا كان الإعلام الخارجي يلعب دورا خبيثا رغم الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم وليس مصر وحدها، وبالضرورة فشلت المساعي في إحداث إرباك للنظام المصري لثمة أسباب وعوامل؛ أبرزها أن المواطن بات على وعي مستدام بكافة القنوات العادية للوطن والمواطن المقيم على أرضه وليس المأجور المرتزق الهارب بعيدا عن الديار.
 
فضلا عن أن هذه الأساليب استحالت بالية وتقليدية ولا فائدة منها، لكن فكر الجماعة وتنظيمها بحرسها القديم لا يزال قابعا في فلك الأربعينيات والخمسينيات انتهاء باعتصامات رابعة العدوية الشهيرة، ومثل هذه التصرفات كانت تنجح في ظل مجتمع يقيم في جهالة بغير وعي أو إدراك، أما منذ سقوط دولة الجماعة في مصر وما تلتها من ممارسات دموية بغيضة، فالمواطن أصبح على دراية تامة بمستقبله ووطنه وبقائه.
 
ورغم أن المواطن العربي يعلم الإجابة الحتمية لسؤال بات مكروراً ومملاً لديه إلا أنه لا يجد حرجاً في إطلاقه وإعادته المستدامة وهو: لماذا أصبح الإعلام بمختلف توجهاته وانتماءاته الرسمية والخاصة والاستثمارية والمعادية أيضا في الوطن العربي يفتقد الحصرية والريادة والتفرد بل واستباقية الحدث نفسه؟. هذا السؤال يصر البعض على إلقاء تبعاته الأنظمة السياسية الحاكمة وظروف العرض والطلب التي يتحكم فيها المتلقي، وأن هذه الأنظمة وتلك الظروف تستهدف تهميش دور الإعلام في التنوير وإحداث النهضة الممكنة للمواطن العربي الذي وقع فريسة لإعلام غربي يكاد يفتت أعصابه بمعلومات وبيانات وحقائق لا يعلم مدى صحتها.
 
 بينما يلمح البعض الآخر إلى أن بعض الأنظمة السياسية الإعلامية فشلت في اللحاق بأي ركب إعلامي معاصر وسط تسارع معرفي وإعلامي وحمى معلوماتية متصارعة بشراسة، وأنه ألقى مسئولية الإعلام على فئة لا تتسم بالخبرة الطويلة والعميقة في هذا المجال وأنها جاءت بغير خطة أو مشروع إعلامي يمكن تحقيقه فعلياً وهذا هو المشهد السائد في أغلب البرامج الفضائية الحوارية التي اجتاحت حياتنا المعاصرة رغم قلة نسب المشاهدة.
 
والحقيقة لا تكمن فقط في المؤسسة الرسمية الإعلامية في عالمنا العربي أو في حجم خبراتها وكفاءاتها أو طروحاتها المستقبلية، لكن الحقيقة أن المؤسسة الرسمية للإعلام في البلاد العربية لم تكن حتى وقتنا الراهن على قدر مطامح ومشكلات وهموم هؤلاء المواطن، وأنها لا تزال تظن نفسها مجرد أدوات للأنظمة السياسية السائدة ـ أي نظام قائم ـ تعكس توجهاته نحو تكريس السلطة والتحكم في السيطرة على مناحي الحياة وتوجيه المواطن رغم أنه تعي في قراءة نفسها أن المواطن اليوم أصبح البوصلة التي تحدد الاتجاهات ولم يعد ذلك الشخص البسيط الذي ينتظر تغييراً أو يستمع إلى قرار سياسي بل صار هو صاحب الحدث في المشهد السياسي العام.
 
ويبدو أن العرب لم يعودوا على دين آبائهم اليوم، لا أقصد دين الاعتقاد الديني ولكن المقصود بدين الآباء هو الموروث الثقافي الذي ينتقل من جيل إلى جيل عن طريق التكرار وإعادة توريث الخبرة المباشرة، فمنذ اشتعال شرارة ثورات الربيع العربي والإعلام الرسمي ظل مؤيداً لبعض الأنظمة العربية الحاكمة حتى لحظة سقوطها، ولعب على هذا الاعتقاد المرئي والمسموع والمقروء أساطين حياكة هذه الأنظمة البائدة بغير خطة أو منهج فكانت النتيجة الحتمية هي فشل الإعلام في تلميع شخصية الرؤساء الذين تم عزلهم وإقصاؤهم بعيدا عن سدة حكم العباد والبلاد، أو إيجاد نوع من التعاطف مع موقف مؤسسات السلطات المعزولة أو التي تم إسقاطها تجاه الأحداث التي واكبت وتزامنت مع قيام الانتفاضات الشعبية
 
ويمكن التأكيد على يقين الصورة الذهنية سالفة الذكر بشأن تسييس الإعلام وتوجيه بوصلته، من خلال فترة حكم جماعة الإخوان مصر عقب انتفاضة يناير البيضاء في 2011، ففي ظل خلافة الرئيس المعزول ـ بحكم وإرادة الشعب المصري الواعي ـ محمد مرسي للبلاد في مصر ومجيئه الغامض وربما المبرر سرا داخل الأروقة السياسية السيادية آنذاك لعلل لم نفطها حتى وقتنا الراهن، حسب نتائج الاقتراع والتصويت الانتخابي للجمهورية المصرية الثانية فإن جموعاً من المصريين لاسيما المنتمين لجماعة الإخوان وبعض الفصائل الدينية القليلة أعادت إلى الأذهان فكرة تكريس نظرية الإعلام الرسمي الناطق باسم النظام السياسي.
 
 وهي النظرية التي تشير إلى أن كافة وسائط الإعلام المرئي والمقروء والمسموع هي ناطقة ومعبرة عن الموقف الرسمي لمؤسسة الرئاسة وللحكومة، لذا وجدنا صيحات في بداية حكم الرئيس المعزول شعبيا محمد مرسي تهلل وتكبر بعودة المظهر الإسلامي للإعلام وبضرورة تطهيره من الوجوه الضالة والكاذبة والتي تعمل ليل نهار على إضعاف الإسلام وشريعته. ولأن المؤسسة الإعلامية الرسمية في مصر لم تعد المالكة الوحيدة لكلمة حصرياً أو أنها بالفعل منذ نجاح انتفاضة يناير فقدت بريقها وسيطرتها الإعلامية دونما رجعة فسرعان ما اكتشف المهللون والمكبرون لسلطان الإعلام الرسمي فشله ـ أعني الإعلام الرسمي ـ في تحقيق مرامي ومطامح هؤلاء الذين اعتبروا وصول الرئيس المعزول محمد مرسي لسدة الحكم في مصر نصراً للإسلام وهزيمة للعلمانية والمدنية والليبرالية.
 
فكان اللجوء الحتمي لهم والإرساء الطبيعي لهذه المرحلة هو المنافذ الإعلامية الخاصة الموجهة كم قنوات فضائية وصحف ومجلات والتي تحمل طابع الخلطة السياسية الدينية والتي بدأت في أول الأمر دينية محضة لا تقترب من الفعل والمشهد السياسي لكن سرعان ما تحولت إلى المشاركة بقوة في الصراع السياسي وتأويل الحدث السياسي من منظور ديني خالص. وهؤلاء القائمون على هذا الإعلام الذي يمكن توصيفه بأنه إعلام شبه رسمي نظراً لانتمائه إلى الأغلبية التي تحكم البلاد في هذه المرحلة نجدهم يصفون الإعلام الآخر المناوئ لهم في التوجه والطرح بالمضلل والمشوه والكاذب والضال والعميل والخائن وبعض الصفات الأخرى التي تضمنها معجم أنصار محاربي الصحافة والإعلام في مصر هذه الأيام وتحديداً منذ تولي الرئيس المعزول محمد مرسي رئاسة البلاد وبعض العباد. لأن هناك فئات من الشعب أعلنت منذ أول يونيو 2013 سحب الثقة من الرئيس المنتخب في ظروف غامضة أشبه بالروايات البوليسية الكلاسيكية معروفة النهايات، وكذلك إعلان فقدان شرعيته.
 
وكنت أظن أن معركة التيارات المحسوبة اسماً على الإسلام أن تكون ضد التيارات والفلسفات الإلحادية المعاصرة والتي وضعت عنها كتاباً بعنوان الإعلاء الإسلامي للعقل البشري تناولت فيه كيفية محاربة هذه التيارات والفلسفات والطروحات الفكرية المشوهة، ولكن دخول الفصائل الدينية السياسية هذه المعركة ضد الصحافة يؤكد مقولة أن هذه التيارات غير مؤهلة للتعامل مع الواقع المشاهد من جهة، ومن جهة أخرى أنها في أول اختبار حقيقي لطرح أيديولوجياتها تسقط وتفشل في اجتيازه بنجاح، فكانت ردودهم الفضائية تنحصر في الهجوم لا العلاج، وفي التطاول لا في تقديم النصح والتوجيه والإرشاد، وعملت هذه الفصائل عبر قنواتها التي أجبرت المشاهد على رؤيتها لتعرف ما وصل إليه المصريون عقب انتفاضتهم الشعبية المعروفة بثورة يناير، على دغدغة مشاعر المتفرجين الصامتين بشعارات ودعاوى مفادها أن الإسلام في خطر والشريعة تتهاوى بسبب تجاوزات الصحفيين والإعلاميين.
 
الشئ الآخر الذي لا يمكن التستر عليه أو الاجتهاد في إخفائه أن الإعلام عن طريق القنوات المرئية الرسمية التابعة للمؤسسات الرسمية بالوطن العربي وكذلك الصحف والمجلات المتخصصة التي تصدرها المؤسسات الصحافية الرسمية المملوكة لتلك الدول على موعد دائم مع الفشل والانحسار، وكل المشاهد السياسية والمجتمعية التي تقفز إلى حياة العرب بغير موعد مثل حوادث الفتن الطائفية وصراعات المذاهب الدينية التي تحولت إلى ساحات من القتل والسحل مثل حادثة تؤكد جميعها أن هذا الإعلام لم يستطع أن يربي ثقافة إيجابية لدى المواطن العربي وأنه كان مجرد صوت إخباري لا يتعمد التوجيه أو التنوير أو إحداث نقلات نوعية في عقول المواطنين.
 
والمؤسف في أمر هذه الظاهرة التي يمكن وصفها بالفشل أن بعض هذه المؤسسات الإعلامية الرسمية تعاملت مع المواطن العربي بمنطق منتجي سينما المقاولات بمعنى أن الجمهور يريد ما يشاهده الآن، وهذا يعكس العزلة التي فرضتها المؤسسة الإعلامية الرسمية على نفسها بأنها لم تقم بأية استطلاعات لرأي المواطن وأنها اكتفت بالاتصالات الهاتفية الكاذبة وبخطابات البريد القليلة التي يرسلها محترفي وقت الفراغ للقنوات الفضائية والصحف والمجلات، فكانت نهاية المشهد أن قنوات التليفزيون الرسمية فقدت المشاهد والمتابع، وأن بعض الصحف والمجلات الرسمية دون تعميمها هربت منها الأقلام الجادة المستنيرة وقفز من سفينتها الناجون نحو الخبر الصادق والرأي العميق غير المتحزب أو المتحيز.
 
إن الوطن العربي لن يتحرر من قيود أزمته المعاصرة سوى بالمعرفة وهذا يتطلب بالضرورة الدراية التامة والكاملة بأحوال الوطن والمواطن، وكذلك جملة التفاصيل التي تشكل الحوار الأهم بين مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي لاسيما وأن لها دوراً مشهوداً في صناعة حدث ثورات الربيع العربي المنصرمة.