عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2019

فهمي جدعان وجدل المعنى والمبنى

 الراي-د. غسان إسماعيل عبد الخالق

رغم كل ما كتبته عن معلّمي وصديقي المفكر العربي الكبير الأستاذ الدكتور فهمي جدعان، ورغم كل ما قرأته له وعنه، إلا أنني ما زلت أستنفر جميع ما أُوتيته من بلاغة وفطنة، لأفي هذا العقل المنير حقّه من الوصف والتوصيف؛ فالكتابة عن فهمي جدعان تتطلّب استعدادًا عقليًا عاليًا وبيانًا استثنائيًا وأدوات تحليلية رفيعة. ولست أبالغ حين أقول: إنه قد يكون المفكر العربي المعاصر الوحيد الذي يسامت معناه مبناه، في ظل هذا الانهيار المريع في الخطاب العربي، شكلاً ومضمونًا. وحتى لا تساور القارئ الشكوك بخصوص هذا الاستهلال البلاغي، فإنني أود أن أحسم هذه المسألة بالقول: طالما كانت الفلسفة والبلاغة توأمَين يخرجان من مشكاة العقل، فإن اختل المعنى عرجت العبارة وإن اختل المبنى تاهت الفكرة. وربما لهذا السبب، ما زال مبحث الفلسفة وكل ما يتصل به من شؤون وشجون، عاجزًا عن الوصول إلى الوجدان العربي العام، لأن المشتغلين به لا يفونه حقّه من البيان والتبيين.
 
ومنذ أن طلع علينا فهمي جدعان بكتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)، اختطّ لنفسه هذه المطابقة العزيزة بين الشكل والمضمون، إلى درجة أن قرّاءَه الخلّص يحفظون مقاطع طويلة من كتبه التي تحفل بهذه التحليقات الباهرة، كما يستحضرون قدرته الفائقة على الحِجاج وتقليب المسائل على كل وجوهها الممكنة، سواء من خلال التحليل المنطقي أو من خلال الاستدلال المادي؛ فهو بوصفه مفكرًا عقلانيًا نقديًا، لا يستغني–بحال من الأحوال- عن تنزيل الفكرة منازل التشريح بلا هوادة، على طاولة الواقع تارة، وعلى طاولة التاريخ تارة، وعلى طاولة الوثيقة تارة ثالثة.
 
ورغم تضلّعه المشهود بقضايا الفلسفة المحضة، إلا أنه آلى على نفسه تنزيل جلّ هذه القضايا منازل المعاينة والتشخيص دون لف أو دوران، منطلقًا من هاجسه الرئيس: جدلية العلاقة بين الفكرة والمادة أو بين النظرية والتطبيق أو بين الأيديولوجيا والسياسة والدين أو بين الثقافة والسلطة، قديمًا وحديثًا، ظاهرًا وباطنًا؛ فلم يكد يغادر إشكالية من إشكاليات الواقع العربي إلا وتصدّى لها ببسالة عزّ نظيرها؛ فالزمن العربي أزمان متفاوتة، والمكان العربي أماكن متباينة، والمقدّمة الخلدونية هي العتبة التي تفصل بين العقلانية واللاعقلانية في الموروث العربي لكل ذي بصيرة، والديني والسياسي سيظلان على طرفي نزاع ما لم تحدّد اختصاصاتهما، والمستقبل للدولة المدنية دون غيرها، والمرأة لا بدّ أنْ تمكّن فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا فضلاً عن تمكينها اجتماعيًّا، والمثقف لا بدّ أن يقطع حبل الاعتياش من السلطة حتى يبدع ويغيّر، والحرية شرط أساس لصيانة المقدّس والدنيوي في آن واحد!
 
هذه عناوين بارزة في صحيفة فهمي جدعان المضيئة والحافلة بكل ما هو عميق ومدهش، أردت من خلال إيرادها أن أستدرج القارئ الحقيقي لمتابعة تفاصيلها الدقيقة، في أبحاث ومقالات الزملاء والزميلات الذين شرّفوني بالاستجابة لدعوتي مرة، وبالإخلاص في كتابة ما يليق بفكر فهمي جدعان مرة أخرى، فكان هذا السّجل التكريمي لقامة باسقة من قامات الفكر العربي. والتي سبق لي أن حظيت بشرف محاورتها أكثر من مرة، كما حظيت بشرف الإعداد والتقديم لملف خاص به، إلى درجة أن الدكتور صلاح جرار قد نوّه بهذا الإخلاص في التتبع عبر مقاله الأسبوعي في صحيفة الرأي! وكيف لا أخلص لمن قاد خطاي على طريق الفكر والأدب والأكاديميا، حتى أصدرت كتابي (الدولة والمذهب) وأهديته له بمناسبة بلوغه الستين، وقد شاء الله أن يمتد بنا العمر، لنقدم له، زملائي وزميلاتي وأنا، هذه الباقة المختارة من الأبحاث والمقالات.
 
ولعل أكثر ما حرصت عليه–وما حرص عليه الزملاء والزميلات في هذا الصنيع- الابتعاد التام عن التقريظ المُرسل والأدب الإخواني وملازمة التشخيص والتحليل والتركيب الخلاّق، لأن فكر فهمي جدعان أجدر بأن يُقارب بأدواته الرفيعة والرصينة. كما سيلحظ القارئ الحقيقي مدى التنوع في الحقول التي رادها فهمي جدعان بجدارة واقتدار، بدءًا من التاريخ مرورًا بالأيديولوجيا والسياسة وليس انتهاءً بالاجتماع. وأما بخصوص الجدّة والأصالة والابتعاد التام عن إعادة إنتاج المستهلك سواء على صعيد أسماء الباحثين أم على صعيد موضوعاتهم، فهذه سمات بارزة لن تخطئها عينا المراقب المدقّق، وهي على أي حال ما كانت لتكون بكل هذا العمق والبروز لولا مركزها المضيء الذي دارت حوله، وأعني به: فكر فهمي جدعان... المفكّر والأكاديمي والإنسان النبيل الذي نرجو له دوام الإبداع والعطاء. مع وافر الاحترام والتقدير لكل من أسهم في إصدار هذا الكتاب؛ بدءًا من الآنسة ريما عرفات التي تجشّمت عناء الطباعة والتنسيق، وليس انتهاء بالأستاذ جهاد أبو حشيش الذي تطوّع مشكورًا لنشر هذا الكتاب من خلال دار فضاءات التي أكّدت أكثر من مرّة أنها مؤسّسة نهضوية وليست مشروعًا تجاريًا!
 
* مقدمة الكتاب التكريمي (العقل النقدي؛ دراسات ومقالات مُهداة إلى فهمي جدعان)، الذي صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وقام الكاتب بإعداده وتحريره وتقديمه.