عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Jan-2021

الشعر واحد على بناء الجمع أم جمع لا واحد له

 القدس العربي-منصف الوهايبي

يذهب المعاصرون وفي صدارتهم جابر عصفور، إلى أن «التجاوب والتداخل بين المستوى الفكري والإبداعي من الحداثة قديما، أدى إلى تأسيس ما يمكن أن نسميه «النقد المحدث» في مقابل «النقد القديم». وإذا كان اللغويون والنقليون من أهل السنة يمثلون النقد القديم، فإن المعتزلة والفلاسفة هم الذين صاغوا أصول النقد الحديث».
ومرد الصعوبة في الإقرار بهذا الرأي الذي لا أتردد في نعته بـ«الأيديولوجي» إلى أن النقد العربي القديم كله يبدأ وينتهي بالقياس على الماضي، وهو نقد نقلي عقلي في آن، وإن على تفاوت بين ناقد وآخر. ذلك أن قياس الغائب على الشاهد يعتمد على العلة عند بعضهم، مثلما يعتمد على الأمارة؛ ولعل هذا ما يجعل صفة «النقلي» أمسّ به، فالأمارة يثبت عندها الحكم ولا يثبت بها. وبالتالي ينتفي مبدأ السببية، ومعها ينتفي العلم الموضوعي. ولم يكن أنصار المحدث مثل الصولي وأضرابه يصدرون عن نسق معرفي مضاد للنسق الذي كان يصدر عنه الآمدي أو القاضي الجرجاني، حتى يجوز لنا أن نسم «النقد المحدث» بـ«العقلي» و«النقد القديم» بـ«النقلي» ونستنتج من مجرد الوصف والتسمية أن النقلي «يخلع القيمة على المتشابه مع الماضي، ويسلبها من المخالف له».
 
قلائد الشعر المحفوظة
 
والقدماء جميعا يحتكمون إلى المعايير ذاتها، ويستأنسون بالشواهد نفسها، بل إن الأدوات المعرفية التي صدروا عنها هي نفسها أو تكاد، لسبب لا نخاله يخفي هو أن الماضي الذي قايسوا به المحدث لم يكن زمنا ولى أو اندثر؛ وإنما كان ماضيا معاصرا يحفهم في كثير من مسالك العيش ومظاهر الحياة، سواء كان يغنيها ويؤصلها، أو يعاسرها ويقيدها. ويحسن أن لا ننسى أن هذا الماضي هو الذي استلهموه في وضع علوم اللغة والنحو والبلاغة والعروض، وفي تفسير القرآن نفسه. فالماضي في نظرنا هو غيره في نظر أسلافنا، ولم يكن هؤلاء الأسلاف نتاج أنفسهم على قدر ما كانوا نتاج الماضي. وليس أدل على ذلك من شبكة الآثار التي نسجبها عصر التدوين خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، بخيوط الماضي نسج اللحمة والسدى؛ خاصة في علوم أمس بالشعر ونقده مثل علوم اللغة التي لم يعمل القدامى على تحيين شواهدها، باعتبارها قلائد الشعر المحفوظة التي لا تنسى لنفاستها، فتحولت إلى أبدال وموضوعات يقاس عليها وموازين ترد لديهم من شطط المحدث، وتحد من «خلطه» و«خبطه».
إن تشبيه الحاضر بالماضي أو رؤية هذا في ذاك أو من خلاله، ليس ظاهرة تنتظم هذه القراءات جميعها وحسب، على اختلاف موقفها من المحدث، وإنما هو صورة كبرى لعلاقة المشابهة من حيث هي عندهم، ركن لا غنى عنه في بناء الصورة عامة والاستعارة حاصة بشتى أنواعها، بما فيها الاستعارة المكنية التخييلية والترشيحية.
 
ومن هذا الجانب فإن القضية المطروحة في قراءة الصورة عنذهم قضية بلاغية قد يتسنى لنا أن نحيط بها؛ إذا نحن جردناها من مشكلاتهم الخاصة، وأحكمنا الفصل بين شكل القضية ومحتواها، على نحو ما نفصل في الرياضيات بين قالب المعادلة ومكوناتها. وهذا منحى تقوم في وجهه عوائق، من أظهرها أن هذه القراءات التي نحن بها، ما كانت لتنهض إلا على أساس من السجال بين النموذجين: القديم والمحدث ومواجهة هذا بذاك، أو البحث عن تماثل بينهما، وما أفضى إليه ذلك عند بعضهم، من تصور الشعر بعقل أعد للماضي، والعودة به إلى «نقائه الأول» وإلى مرحلة ما قبل «ظهور الخلاف» بين أنصار القديم وأنصار المحدث أي مرحلة ما قبل ظهور التفكير البلاغي الذي أرسى ركائزه متكلمو المعتزلة وغيرهم من علماء العرب وفلاسفتهم؛ وجعل زمن الشعر، بسبب من ذلك، «يتحرك» في ثوابت ودوائر هي بمثابة قواعد وأحكام وسمات ثابتة.
 
يقول القاضي إنه بانتشار الإسلام، واتساع ممالك العرب، وكثرة الحواضر ونزوع البوادي إلى القرى «اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنها سمعا وألطفها من القلب موقعا.
 
وكأن الأمر يتعلق بدائرة تشد إلى وسطها مختلف الأشعة المنبعثة منها، من غير أن تبرح محيطها، أو بمصباح يشد إلى مركزه جميع تموجات الضوء المندفعة نحو مختلف الاتجاهات. فكان أن اعتبروا الشعر واحدا جاء على بناء الجميع، وسمتا تنتهي إليه كل القصائد، أو ينبغي أن تنتهي إليه، وليس جمعا لا واحد له، على ما نرجحه ويؤكده تاريخ الشعر، حيث الأشكال تولد أشكالا مضادة وتؤدي إلى تركيب جديد قد يكون أشد تعقيدا أو تجريدا، على نحو ما نجد عند الشعراء المجددين، في الصيغ والتراكيب المجازية المستلهمة من النموذج، وقد صرفوها عن وجهها وحولوها عن حالتها وحملوها ثقيلا، لم تكن لهم به طاقة ولا هم كانوا منه على إيلاف. غير أنه يظل بالإمكان تجريد القضية البلاغية المطروحة في قراءة الصورة من مشكلات القدامى الخاصة وأحكامهم المعيارية، وما وقر لدى بعضهم من أن المحدث انقلب بالشعر من درجة أعلى إلى درجة أدنى، وتذليل الصعوبات التي تعوق عن هذا التجريد، ما أدركنا أن قراءاتهم، على «اختلافها» تدين كلها لمنظومة الإحداثيات وأساليب التفكير وقواعد التحليل التي تشكلت خلال عصر التدوين، وحددت علاقتهم بالنص الأنموذج من حيث هو مصدر من مصادر المعرفة لا غنى عنه ولا بديل. ولم يكن هذا النص قضية تحتاج إلى برهان لإثبات صحتها، فقد نفى الظن عنه، اعتقادهم في أن أهله «جدوا بالتقدم» و«أنهم القدوة والأعلام والحجة»؛ على الرغم من أن القارئ يجد «كثيرا من أشعارهم معيبة مسترذلة، ومردودة منفية، لكن هذا الظن الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم…. فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام». فهل القاضي الجرجاني صاحب هذا الرأي «ناقد نقلي يعتمد على ما ينقل من أحكام، أو يحيطه من انطباعات» كما يقول جابر عصفور؟ وهل هو «يخلع القيمة على المتشابه مع الماضي، ويسلبها من المخالف له» بعبارة عصفور، وقد فطن إلى أن القيمة نسبية مرتهنة بالنص الذي نحن فيه من جهة، وبأوضاع اللغة من أخرى؟
يقول القاضي إنه بانتشار الإسلام، واتساع ممالك العرب، وكثرة الحواضر ونزوع البوادي إلى القرى «اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنها سمعا وألطفها من القلب موقعا… وتجاوزوا الحد في طلب التسهيل، حتى سمحوا ببعض اللحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة، وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق، فانتقلت العادة، وتغير الرسم، وانتسخت هذه السنة، واحتذوا بشعرهم هذا المثال، وترققوا ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطف ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول يتبين فيها اللين فيظن ضعفا، فإذا أفرد عاد ذلك اللين صفاء ورونقا، وصار ما تخيلته ضعفا رشاقة ولطفا». فهذا أحد واضعي نظرية الشعر عند العرب، ينحو منحى «الناقد العقلي» ـ إذا نحن أخذنا بتصنيف الأستاذ جابر عصفور ـ فهو يعتمد على ما يعقل من خواص القديم والمحدث كليهما، وما يستنبط من معايير «بغض النظر عن التعصب القبلي لزمن القائل أو شخصه» ولا هو يعلي من القديم لمجرد القدم، أو يستخف بالمحدث لمجرد الحداثة ؛ بل هو شأنه شأن غيره، يشير إلى التفاوت في شعر المحدثين، ويبين أنه درجات ومراتب، حتى ليبدو من كلامه أنه أشبه بدرج يتخطى فيه القارئ من الأدنى إلى الأعلى أو من الأعلى إلى الأدنى.
 
طمس المحاسن
 
إن المحدث في قراءة «القدامى ليس محدثا كله، وإنما «جنس» منه، بعبارة القاضي، رام فيه صاحبه «الإغراب والاقتداء بمن مضى من القدماء» فأعوزه وذهب عنه و«لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشد تكلف، وأتم تصنع؛ ومع التكلف المقت… وربما كان ذلك سببا لطمس المحاسن، كالذي نجده كثيرا في شعر أبي تمام».
ولا يفوت القاضي أن ينبه قارئه إلى أنه قال ما قال لا «غضا من أبي تمام ولا تهجينا لشعره، ولا عصبية عليه لغيره» وينكر أن يصدر منه مثل هذا: «فكيف وأنا أدين بتفضيله وتقديمه، وانتحل موالاته وتعظيمه، وأراه قبلة أصحاب المعاني وقدوة أهل البديع»؟ بل هو يعجب من أمر أبي تمام كيف يقرن إلى «الغرر» من شعره «الكلام الغث، أو الفاسد الرديء الذي لا خير فيه، ويتساءل: «وما عليه لو حذف نصف شعره، فقطع ألسن العيب عنه، ولم يشرع للعدو بابا في ذمه؟».
وما كان القاضي ليتساءل لو لم يلحظ اجتماع الضدين في شعر أبي تمام، وتفاوته في الفضل والمزية، فهو مأنوس من جهة، وحشي من أخرى. ومن هنا مأتى «البطانة الوجدانية» التي تلف خطاب «الخصوم» النقدي، وتجعل منه خطابا «نقليا» «عقليا» في آن، تقوده ثقافة السلطة والنقل والحفظ والذاكرة، مثلما تقوده ثقافة العين والنظر والعقل والكتابة.
 
شاعر وناقد تونسي