عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Aug-2023

حينما تكون الأدوية أكثر سوءا من المرض ذاته.. الزكام نموذجا

 الغد

 من منا لم يحلم بالحصول على علاج شافٍ للزكام؟ دواء على شكل أقراص يمنع حدوث الرشح نتناولها حالما تبدأ الأعراض بالظهور. والأفضل من ذلك لقاح يعطى للأطفال قبل التحاقهم بالروضة عندما يأخذون لقاحي الحصبة والنكاف. لنتخيل عالما خاليا من الزكام، عالما لا تتخلله أسابيع من المناديل الرطبة، وعطاس ومخاط تسد الجيوب الأنفية.
 
وفي الواقع يعمل العلماء على اصطناع لقاح مضاد للفيروسات الأنفية راينو فيروس rhinoviruses، وهي مجموعة من الفيروسات التي تسبب 50-30 في المائة من حالات الزكام، لكن حتى إذا نجح العلماء في تحقيق ذلك، أو توصلوا إلى اكتشاف علاج يوقف الزكام، فإن معظم الناس قد يرون أنهم أفضل حالا من دون استعمال هذه الأدوية.
 
إذا أخذنا مثالا من أحد الأدوية المضادة للزكام المسمى بليكوناريل pleconaril الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة العام 2002 عندما كان في مرحلة التجارب السريرية، فقد دُعي في حينه "بالعلاج المعجزة"، نظرا لما أظهره من فعالية جيدة عند اختباره على المزارع الخلوية، إلا أن تأثيره في الإنسان لم يكن باهرا -فقد قصّر مدة الزكام يوما واحدا فقط. 
أما السبب الذي دعا إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) إلى رفض هذا العلاج، فهو التأثيرات الجانبية له، فبعض النساء أُصِبْنَ بالنزيف أثناء استعماله ما بين الدورات الطمثية، كما أنه تداخل في عمل حبوب منع الحمل الهرمونية. وفي الواقع، حصل الحمل عند امرأتين أثناء استعماله. وقد تم رفض العديد من الأدوية الأخرى المماثلة بسبب تأثيراتها السيئة، مثل التهاب الأنف الذي كان أسوأ من الزكام نفسه. وهكذا اتضح أن الزكام أقل سوءا من بعض الأدوية.
ومن ثم بذلت جهود كبيرة أخرى من أجل تحضير لقاحات للوقاية من الزكام، ولا سيما اللقـاحات المضادة للفيروسات الأنفية (ويمكن للفيروسات الغدية adenoviruses والفيروسات التاجية coronaviruses وغيرها من العائلات الفيروسية أن تسبب الزكام). وكما هو الحال في فيروس العوز المناعي المكتسب HIV، تتألف الفيروسات الأنفية من جينوم genome من الرنا RNA مغطى بغـلاف من البروتين يدعى القُفَيْصَة capsid، ويلتصق الفيروس بغشاء الخلية المضيفة ويحقن فيها مادته الوراثية، ثم يستولي على آلياتها ويتكاثر بواسطتها. وإن رد الفعل الالتهابي المناعي لدى المضيف هو سبب حدوث الأعراض وليس استنساخ الفيروس.
قبل نحو عشر سنوات، دُهِش العلماء عندما شاهدوا أجزاء من الفيروس الأنفي التي ظنوا  أنها مخفية في الداخل -بعيدة عن اكتشاف الجهاز المناعي لها- عادت إلى الظهور على السطح في بعض الأحيان على الأقل. وفي نهاية الأمر استنتجوا أن القفيصة قد تكون أكثر ديناميكية مما كان يعتقد سابقا، وأنها تتغير وتكشف عن بعض النواحي المخفيّة. 
وفي العام 2009، بينت الأبحاث على المزارع الخلوية، أن اللقاح من نوع VP4 يعطي مناعة ضد ثلاث سلالات من الفيروسات الأنفية، مما يقترح بأن هذا النوع من اللقاح قد يكون مفيدا في الوقاية من كثير من حالات الزكام، إلا أن هذا الاحتمال المأمول لم يتأكد بعد. كما ثبت أن البروتين VP4 ليس قويا في العادة بما يكفي لإحداث رد فعل فعال، وإننا إذا استعملنا بروتينا مثل VP4 في تحضير اللقاح، فإن علينا أن نقنع الجهاز المناعي بطريقة ما لمهاجمته.
في مجال المحاكاة البيولوجية Biological Mimetics، طرحت فكرة قد تفيد في التغلب على هذه العقبة. وهي أن إعطاء كمية كبيرة من بروتين لا يتعرّفه الجهاز المناعي عادةً قد يثير استجابة مناعية واقية. وقد أظهرت هذه الاستراتيجية بعض العلامات المشجعة في الأبحاث الأولية التي تناولت الحمى القلاعية foot-and-mouth disease. والآن هي قيد الدراسة في فيروس العوز المناعي البشري HIV، إلا أن فائدة هذه الاستراتيجية لم تتأكد بعد.
أما فيما يتعلق بالأدوية التي تعمل حالما يبدأ الزكام، فإن أخطار دواء البليكوناريل ما تزال ماثلة في الأذهان. بما أن العدوى بالزكام لن تقتلك، فيجب أن يكون العلاج آمنا كالماء ويجب أن يكون العلاج فعالا جدا. كما يجب أن يكون رخيص الثمن وآمنا تماما. وهكذا، يتبين مدى ارتفاع سقف الشروط المطلوبة، فمع مرور خمسين عاما على الدراسات الخاصة بالفيروسات الأنفية، لم يتوافر في الأسواق حتى الآن دواء واحد لمكافحتها. ومع أن عددا قليلا من شركات الأدوية تواصل البحث عن علاج للزكام، فإن بعضا منها يستمر بتركيز أبحاثه على الفيروسات الأنفية. وخلال العقود الماضية، بينت الأبحاث وجود علاقة بين الفيروسات وبعض المضاعفات الخطيرة للربو asthma وانتفاخ الرئة emphysema والتليف الكيسي cystic fibrosis. من وجهة نظر اكتشاف الأدوية، إذا كان الدواء فعالا في مكافحة مرض خطير، فإن خطر فشله لأسباب تتعلق بسمِّيته أو سلامته أو تكلفته العالية يقل. 
أخيرا، ربما لا يكون الإفلات الذكي للفيروسات الأنفية من قبضتنا هو أكثر الأمور سوءا، ويبدو أن إصابة الأطفال بالزكام تقلل من احتمال إصابتهم بإنفلونزا الخنازير H1N1. هذه العلاقة ما تزال افتراضية، ويفترض أننا إذا نجحنا في القضاء تماما على العدوى بالفيروسات الأنفية، فقد نفسح المجال لغيرها من الفيروسات التنفسية مثل فيروس الإنفلونزا لتأخذ مكانها. 
من المحتمل ألا تستطيع علاجات فيروس الزكام في المستقبل القضاء على العدوى، لكنها قد تكون قادرة على تخفيف أعراضه. إن ثلث العدوى بالفيروسات الأنفية لا يترافق بأعراض، ومن الواضح أن رد الفعل الالتهابي ليس ضروريا للتخلص من الفيروس، لأن هؤلاء الأشخاص يتغلبون على العدوى كغيرهم من الناس.
قد تستطيع العلاجات المستقبلية أن تكبح رد الفعل المناعي أو أن تخفض أعداد الفيروسات في الجسم إلى المستوى الذي يكفي لتجنب حدوث الأعراض. إلا أنه كما هو الحال مع سائر العلاجات المتوقعة للزكام، علينا أن نتساءل: هل نحن نريد إعاقة عمل الجهاز المناعي؟ إذا فعلنا ذلك، فإننا في الواقع قد نقايض توعكا خفيف الوطأة بآثار جانبية للعلاج قد تكون أشد وطأة. وهذه هي، مع الأسف، المشكلة المركزية المحيّرة في معالجة الزكام: قد يكون العلاج أسوأ من المضايقات.
الصيدلي إبراهيم علي أبورمان
وزارة الصحة