عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Dec-2020

«عالم في العراء».. مقاربات في الإعلام الجديد والمجتمع والثقافة

 الراي-خالد عزب

يبدو عمار علي حسن، في مقدمة كتابه «عالم في العراء»، كما لو كان يجود علينا ببعض تجاربه وتجارب كتاب وأدباء آخرين مع الفن والسياسة و القراءة والكتب والكتابة، لكي يفيد القارئ بما استفاده هو به من خلاصة سياحته الفكرية المتعمقة في آراء وتجارب ومواقف كتاب وأدباء وشعراء أثرت فيه وحفرت في ذهنه رؤى وتصورات إيجابية بشأن قضايا وظواهر اجتماعية وسياسية وأدبية، وعلى رأس هذه القضايا الإعلام الجديد وثقافة التسامح واللغة كمدخل فلسفي وفلسفة الأبوة والأبوية.
 
وما يجعله كتاباً يستحق القراءة هو أنه بالإضافة إلى ما سبق ذكره يتضمن مقاربات وتراجم تكشف جوانب أخرى في شخصيات أدبية وفنية وسياسية مثل ابن رشد و نجيب محفوظ ويوسف إدريس ونجيب الريحاني، وأحمد حسنين باشا، بالإضافة إلى رؤى نظرية فلسفية وأدبية عميقة حول أمور كثيرة منها أشكال الكتابة ومستقبلها، والنصوص ثلاثية الأبعاد، وعلاقة الرواية بالسلطة،والعناق الأبدي بين الأدب وعلم النفس، وأصناف القراءة والقراء، والرواية والتصوف،و الرواية والريف الجديد والكتابة من الخارج ورواية الذات، ومظاهر خصام المتطرفين للفنون والآداب، وأشياء أخرى مهمة.
 
وتحت عنوان «تويتر وأخواته..سياسة الإعلام الجديد» يرى الكاتب أن الإعلام بمفهومه التقليدي القائم على التفكير الخطي والناقل للمعرفة في اتجاه واحد،والذي تكاد تنعدم فيه التغذية المرتدة،لم يعد قابلا للصمود أمام الإعلام الجديد،إعلام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي،فيس بوك وتويتر وانستجرام وغيرها،وذلك لكون الأخير قائماً على التأثير المتبادل ويمارس ثلاثة أمور أساسية تؤثر في القيم والتصورات والاتجاهات،أولها:تعزيز التفكير الشبكي،وثانيها: تدعيم روابط المشاركة بين المرسل والمتلقي وإزالة الفواصل بين النخب والجمهور،وثالثها:تحرير الأذهان من خلال تعرف المتلقي على وجهات نظر ورؤى وتصورات أخرى،خاصة أن كل مواطن في الإعلام الجديد،أصبح في مقدوره أن يكون مواطنا صحفيا يؤثر بمحتوى أخباره وفيديوهاته ورسائله الإعلامية في الناس بما فيهم الإعلاميون أنفسهم.
 
ويتوقف مستقبل الإعلام الجديد باعتباره الابن الشرعي لليبرالية بمضمونها الغربي، وعلى الرغم من تاثيره الكبير في الوقت الراهن،وفق رؤية الكاتب،على مستقبل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية، أدوات للتحرر أم أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية،خاصة بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية، وهو المستقبل الذي يمكن استشرافه، من خلال مناقشة علاقة السياسة بالإعلام الحر، ومعرفة تأثير هذا الإعلام على قيم الديمقراطية والليبرالية، ومعرفة ما إذا كان يغذيها بعد أن نبت من رحمها أم يلتف عليها بفعل فاعلين، يتربصون بالحرية، ويضجرون من القدرة الهائلة التي تمتلكها الشعوب.
 
ويحاول الكاتب الإجابة على ذلك السؤال الكبير من خلال شرح مقنع لثلاثة عناوين، أولها :"الإعلام الجديد كثورة ناعمة»،وفيه أوضح أن هذه الثورة لها ست سمات أساسية، وثانيها: «السياسة والإعلام الحر»، وفيه تناول بالتفصيل ثلاثة مصطلحات مهمة لها صلة وطيدة بالإعلام الجديد، وثالثها: «الإعلام الجديد كابن شرعي لليبرالية»، وفيه أوضح العلاقة المتشابكة بين الإعلام الجديد وقيم وركائز الليبرالية ومدى استفادته من تلك الركائز،ورابعها:"الإعلام الجديد..أداة للتحرر أم الإكراه»، وفيه أجاب عما إذا كان هذا النوع من الإعلام يعزز التحرر أم يشدد القيود؟
 
ويؤكد الكاتب أن الإعلام الجديد كثورة إعلامية واتصالية ناعمة لها ست سمات شرحها الكاتب كنوع من العصف الذهني وكمجرد طرح أولي ينتظر التعديل أو الإضافة، وهذه السمات هي: 1- توسيع المشاركة الشعبية في صناعة الإعلام، حيث ظاهرة المواطن الصحفي،2- تعزيز الفردية بشكل يدمج الفرد في مجتمع افتراضي ويجعل له أصدقاء من مختلف بلدان العالم،ويؤثر في المستقبل على هوياتهم وانتماءاتهم،3- إعطاء دفعة قوية لاقتصادات المعرفة لاتقل عن الدور الحيوي الذي لعبه النفط في الثورة الصناعية،4- وظهور تحدي للسلطة السياسية من خلال منازعتها في امتلاك وسائل الإعلام والرد عليها وكسر أحادية وقدسية أهداف إعلامها القديم،5- الإفراط في استخدام الإعلام كركيزة أساسية في السجال العقائدي الذي يدور في العالم أجمع، لاسيما بعد أن صار الدين يشكل عاملا بارزا من عوامل الصراع الدولي الراهن، بفعل إذكاء الولايات المتحدة لمسار «الإسلاموفوبيا»، 6- ضحايا الإعلام الجديد والقوى المضادة له.
 
وعن مصير الإعلام القديم أو التقليدي، يرى الكاتب أن الوسائط الجديدة ليس بوسعها أن تهيل التراب على القديم تماما، ويرجع ذلك إلى أن نظريات التحديث تنبىء بأن القديم لايموت كله، وتؤكد في الوقت نفسه أن بعضه أجدى للناس من أشياء جديدة، ويستدل على صدق ما يقوله بأن الصحف الورقية لم تختف بحلول عام 2018، كما توقع بيل جيتس، وبأن الكتاب المطبوع لم يختف على وقع شيوع القراءة على الإنترنت، كما ظن البعض، حيث يتم طبع كتب إلكترونية على شاكلة الكتاب الورقي، منها مازاد توزيعه عن 90 مليون نسخة كرواية «هاري بورتر».
 
ويوضح الكاتب أن التوقعات باختفاء الإعلام التقليدي ترجع إلى الخلط الخاطىء بين الآلة والسلعة، قائلا:"الآلة المتطورة تنسخ أختها المتخلفة أو تلغيها كلية، لكن السلع الجديدة لا تلغي القديمة، إذ لا يزال الناس يستهلكون سلعا كانت البشرية تستهلكها منذ آلاف السنين. والجريدة وكذلك الكتاب هما من صنف السلع، وليسا من طرز الآلات، ومن ثم فهما باقيان معنا سنين طويلة، لكن عليهما التكيف مع معطيات ومتطلبات مجتمع المعرفة، لاسيما في مجال القابلية للحمل، والمحتوى، والعائد الدائم».
 
وتحت عنوان «السياسة والإعلام الحر»، يرى الكاتب أن السياسة والإعلام يتبادلان المنافع في النظم الديمقراطية، ويتصارعان في النظم المستبدة والشمولية بسبب توجيه السلطة للإعلام، ولكن الصراع لايكون في شكل معادلة صفرية، ويكون نسبي ومؤقت وسطحي، وذلك لرغبة الطرفين في الوصول لنقطة توازن وتبادل مصالح، يعززها نزوع الطرفين للدفاع عن المصالح العليا للدولة، ويؤكد أن علاقة الإعلام بالسياسة أعمق من الوقوف عند حد توظيف السلطة لوسائط الاتصال في خدمة مصالحه، فهي لها دور في تنمية الثقافة السياسية، عبر ثلاثة مستويات، معرفي وعاطفي وسلوكي.
 
ولم يحبذ الكاتب الاستقلال الإعلامي الذي يجعل الإعلام وسيلة جافة محايدة باردة بلا عواطف مشبوبة، ويرى أن الإعلام الليبرالي أو الحر هو الأكثر قدرة ومنعة،ويشرح بأسلوب علمي مقنع كيف يؤثر هذا الإعلام الأجنبي في المجتمعات التي تعاني دولها من حروب و صراعات داخلية، عرقية وطائفية،ويلمح إلى أن الإعلام الجديد في الدول النامية يوازي الإعلام الحر في الدول المتقدمة، فهذا الإعلام الجديد يتماهى مع ثلاثة مصطلحات إعلامية مهمة، هي الديمقراطية الإعلامية ووسائل الإعلام الديمقراطية والصحافة الديمقراطية، فالأول يصل فيه البث لكل الناس،ويشارك فيه الجمهور وتتعزز قيم الديمقراطية، «وقد وجد أصحاب هذا الاتجاه في الشبكة العنكبوتية العالمية «ويب» وسيلة لتحقيق ما يصبون إليه، حيث صارت منبر من لا منبر له، وفتحت أبوابا واسعة لمشاركة الناس على اختلاف توجهاتهم، لاسيما مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية، التي أصبحت صوت المحجوبين في وسائل الإعلام الرسمية في الدول غير الديمقراطية.
 
ويؤكد الكاتب أن مواقع التواصل الاجتماعي تعزز من مفهوم الصحافة الديمقراطية، والتي تعنى بتصنيف القصص الخبرية وفق تصويت القراء عليها، حيث بات يؤخذ في الاعتبار رأي الجمهور فيما يتم ترويجه من قصص. وبذا صارت هذه الصحافة، أكثر ملاءمة لسياق ديمقراطي، يراعي حق التعبير والتدبير، وإعلاء القانون، والتمسك بالقيم والمسارات المدنية، وإذكاء الشعور بالمصلحة العامة.
 
ويرى الكاتب أن الإعلام الجديد ابن شرعي لليبرالية ويربط بينه وبين التطور الرأسمالي وزيادة الاعتماد على تكنولوجيا الزكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية،ويتحدث باستفاضة عن القيم التي ترتكز عليها الليبرالية، والتي يستفيد منها الإعلام الجديد ويخدمها ويناقضها في الوقت نفسه، وهذه القيم هي،(المواطنة، حرمة الحياة الخاصة،المشاركة أو الانخراط السياسي، الحريات العامة، التعددية، اللامركزية، السوق المفتوحة).
 
وتحت عنوان «الإعلام الجديد..أداة للتحرر أم الإكراه» يشرح الكاتب خصائص الإعلام الجديد ويطرح سؤالا كبيرا ويحاول الإجابة عليه بالمعلومة والفلسفة والمنطق،والسؤال هو، هل مثل هذا النوع من الإعلام يعزز التحرر؟ أم يشدد القيود؟، وفي سياق إجابته على السؤال يوضح الكاتب أن مساحة الحرية في الإعلام الجديد، هي مساحة للقول وليس للفعل، ويشرح التحول الكبير في السياسة والإعلام الذي أحدثه صنع الهاتف المحمول،ودوره في تعزيز الشفافية ومراقبة السلطة في ملف انتهاكات حقوق الإنسان.
 
ويلفت الكاتب الانتباه إلى نقطة غاية في الأهمية، تتمثل في أن الإعلام الجديد ليس بوسعه أن يمارس فائض الحرية في كل مكان وزمان،لأن الحكومات، بما فيها حكومات الدول الديمقراطية تتدخل لتقليص هذا الفائض بقوانين وإجراءات قاسية للرقابة والتحكم فيه، خاصة أن الأنظمة التسلطية تمتلك تقنيات للمراقبة والتحكم في الإنترنت، ولديها إجراءات لتقييد الحريات منها دوائر الذباب الإلكتروني التي تستهدف المحتوى الإعلامي لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
 
وأخطر ما في الإعلام الجديد أنه يخدع كثيرين بتحقيق الرضا الزائف عن المشاركة السياسية، وذلك لاعتقاد أغلب المتداولين لمواقع التواصل الاجتماعي، على نحو خاطىء، أن ما يفعلونه في العالم الافتراضي يعوضهم عن النزول إلى الشارع، أي إلى عالم الواقع، فالأدوات الرقمية، بحسب رؤية الكاتب،يمكنها صرف انتباه المواطنين عن العمل السياسي عبر الترويج للترفيه الشخصي، وإضعاف المقاومة الديمقراطية من خلال منح الناس وهما يبدو آمنا، ولكنه سطحي، بأنهم يمارسون العمل السياسي،ناهيك عن قدرة السلطات المستبدة على التقليل من تأثير الإعلام الجديد من خلال توظيف ميليشياتها الإلكترونية في صناعة هشتاجات وتريندات زورا وبهتانا تؤثر على الرأي العام وتجعل الأغلبية لمساندتها في قراراتها وإجراءاتها.
 
ويضر الإعلام جديدا كان أو قديما، وفق رؤية الكاتب، بالقيم الديمقراطية والليبرالية لأنه يستخدم لخدمة مشروعات سياسية واقتصادية مثل المشروع الامبريالي،وثورة الاتصالات تحمل في ركابها أضرارا منها الحرب الالكترونية بما فيها سباق التسلح السيبراني والجريمة الالكترونية كاختراق السجلات القومية ونشر الإباحية،وتقوية النزعات الاستهلاكية، التي قد تودي بالناس إلى التشيؤ، والوقوع في شكل من العبودية الطوعية.