عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Jan-2019

ذكريات المطر

 الراي

في كتاب ذكرياته» تلك السنين» يروي المؤلف «طارق عبد الكريم محمود» عن الاعلامي والمذيع الاردني » عمر الخطيب» أنه جاء قديماَ الى قرية عنبتا في الضفة الغربية في ستينيات القرن الماضي, وذلك بسبب ان السماء كانت تجود بالمطر في كثير من السنين.. ولكن كان انحباس الأمطار يحدث في بعض السنين الأخرى... فقد انحبست الأمطار عام 1965، وتأخر نزولها وخاف الناس من حدوث القحط !!.
 
وفي القرية التقى المذيع بعدد من المواطنين هناك منهم: سليم الذوابي وجميل نصار، وكان المذيع في آخر كل لقاء من برنامجه » مع الناس» يسأل الضيف سؤاله المعهود: بنحب نسمعك أغنية فماذا تحب أن تسمع؟!.
 
فأجاب جميل نصار: بحب اسمع أغنية عن المطر، فسمعه أغنية فيروز:
 
شَتِّي يا دنيا
 
شتي يا دنيا تيزيد موسمنا ويحلى
 
وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلى
 
خلِّيلي عينك عالدارعسياج إللي كلو زرار
 
بكره الشتويي بتروح ومنتلاقى بنوار
 
يحلى عيد يضوي عيد نزرع ونلم عناقيد
 
وانطرني لا تبقى تفل وتتركني وحدي عم طل
 
جمعتلك حرج زهور ياسمين ومنتور وفل
 
زهرة بأيد قلب بأيد يا خوفي لاقيك بعيد
 
وانطرني بحقول الريح الدنيي عناقيدا تلاويح
 
وخبيني بفية عينيك جرحني حبك تجريح
 
قول وزيد غني وعيد نزرع هالأرض مواعيد.
 
ويذكر الكاتب «عبد الباسط خلف» ان صاحب السيرة الذاتية عبد الكريم محمود قد استهل كتابه الذي أبصر النور عام 2014 في نابلس، بغزل يشتعل حبَا لبلدته «عنبتا» فيقول مستذكراً:
 
» كنت أصحو على صباحاتك المشرقة، فأرى المزارعين يلمّلمون الندى، ويسقون سنابل القمح حبًا، ويغسلون ثمر الزيتون بعرق الانتظار».
 
المطر الغزير
 
وفي المذكرات تلك يسرد المؤلف عن أيام الماضي وحب المطر.. فيقول طارق عبد الكريم في وصف المطر ما يلي :
 
» لا أنسى شتاء 1962، حيث كان المطر غزيرًا جدًا، واستمر هطوله ثلاثة أسابيع متتالية، وارتفع منسوب المياه في وادي بلدة عنبتا، ودخلت المياه عددًا من المنازل، وبدأت الأصوات تصرخ من هنا وهناك، لتعلن أن مياه الأمطار القوية دخلت إلى دار الحاج محمد عبد الرحمن نور، حيث كان فيها ثلاث غرف مستأجرة, تضم صفوفاً لطالبات الصف الأول والثاني تابعة لمدرسة البنات، فهب الناس لإنقاذ الطالبات، وكنت واحدًا من مشاهدي المطر، ومن المهتمين بإنقاذ البنات، وكانت شقيقتي نادية إحدى طالبات الصف الثاني في هذه البناية.
 
فقد دخل أمين البدران على حصانه، ومعه أسعد الشيخ على حصانه، وبدءآ ينقذان البنات بنتًا بنتاً، والشباب النشامى يتناولون منهما البنات، وفي نفس المشهد أخرجت الحاجة أم حلمي نور رأسها من شباك دارها القديمة المواجهة لتصيح بأعلى صوتها: «يا ربي يا حبيبي بكفي مطر»، وتكرر هذه العبارة مرات ومرات.
 
ويستذكر أيام طفولته ليقول:
 
"إن أكثر ما كان يستهويني نزول المطر... فكنت أخرج بملابسي، وأقف تحت زخات المطر، وأجد متعة في ذلك، فتلاحظ أمي ذلك، فتلحقني وتضربني وتغيّر لي ملابسي في الحال، وفي اليوم التالي أعود وأكررها وألاقي نفس المصير».
 
ويرصد التغيرات التي عصفت بكل شيء تقريباً، فيقول: «لم نكن نعرف الفواكه إلا في مواسمها، إذ كانت قليلة جدًا، و كان اعتماد الناس على مواسم الصيف من عنب وتين وصبر وخيار وفقوس وبطيخ».
 
ويتابع وصف أحوال البيئة والتراث: كانت مواسم جدتي كثيرة، فيها البركة والعطاء، وكل من أبنائها وأحفادها يتذوقون طعم هذه المواسم من بندورة وخيار وفقوس وكوسا وبامية وصبر إلى جانب القمح والسمسم واللوز والزيتون، وكانت أشجار اللوز حول البيت كثيرة، كانت ترعاها وتحرص عليها، وكانت تتفاخر بأن جبلنا يكتسي حلة بيضاء تمنح المنطقة جمالاً ورواء في موسم إزهار اللوز.
 
غزو الجراد
 
وعن المواقف الزراعية المفاجئة يقول في مذكراته: » في سنة 1953 غزا الجراد فلسطين، وأذكر تمامًا حينما كانت أسرابه تملأ الجو، ولكونها حجبت الشمس عن الرؤيا، خرج كل الناس إلى حقولهم يحملون العصي والصفائح المعدنية لكي يضربوا بالعصي على الصفائح فيهرب الجراد، ولكن هيهات له أن يهرب!! فقد أكل الأخضر واليابس، وتشاءم الناس في ذلك العام وساء الإنتاج الزراعي، وغلت الأسعار مع فقر الناس الذي كان».
 
و كانت أسرة والدي تعيش جنبًا إلى جنب مع أسرة عمي نجيب، في دار تتكون من أربع غرف، وكنا شركاء في كل شيء، نأكل طبخة واحدة، ونسهر معًا، ونقضي أوقاتنا معًا، وكان بالقرب من بيتنا بيوت أعمامي الذي يعيش كل واحدٍ منهم مستقلًا».
 
الملايات والنبعة
 
» ومن المناظر المألوفة في عنبتا في الخمسينيات والستينيات منظر الملّايات–من كلمة ملأَ- وهن نساء وصبايا كن ينقلن الماء على رؤوسهن بواسطة الجرار أو التنك من نبع الماء غربي البلدة المتعارف على اسمه (النبعة).. وكانت الملايات يمشين في الشوارع والطرقات، وكان المنظر يتكرر بعد عصر كل يوم.. وظل هذا المشهد يتكرر حتى بداية شهر شباط عام 1962، حين وصلت شبكة المياه جميع منازل البلدة».
 
ويتحدث السارد عن النساء العشَّابات (اللواتي يزلن العشب من الأراضي الزراعية بأجر)، والحطَّابات (يجمعن الحطب من الجبال ويبعنه لأصحاب الأفران).
 
مهن و ألعاب شعبية
 
ويوثق طارق عبد الكريم حكايات الألعاب الشعبية المسلية في الستينيات مثل ألعاب: اللص والحاكم والجلاد، ومواسم الزيتون، وأفران عنبتا التي انقرضت، حيث كانت النساء يحملن العجين لخبزه، وشهر الصوم وطقوسه، وألعاب البنانير!! التي كانت أيام الطفولة كلما حل فصل الشتاء ليحل معه اللعب بالبنانير، هذه اللعبة التي تم توارثها من جيل الى جيل».
 
ويتتبع الراوي مهن خمسينيات القرن الماضي، كالمجلّخ (الذي يجعل السكاكين والمقصات حادة، ومبيض النحاس، والبوابرجي مٌصلح بوابير الكاز، ومنجد المفروشات، وحذَّاء الخيول.