العربي الجديد
عيسى الشعيبي
ما نحن بصدده محاولة أولى من نوعها لبناء إطار نظري لصورة غير مكتملة المعالم والخطوط، والألوان، تكونت ملامحها عبر حكايات شفوية متناقلة في المجال المحلي العام داخل مدينة جنين ومحيطها الاجتماعي اللصيق، على ألسنة امهات وآباء فليلي الكلام واقارب وجيران يؤثرون الصمت لدواعٍ امنية مفهومة او لأسباب من خارج حيّز الادراك بأهمية تشكّل حالة وطنية نادرة الحدوث في مجرى التطورات الكفاحية المتراكمة والظواهر الاجتماعية الطارئة في سجل الصراع الطويل.
في تتبع معالم هذه الحالة المتداولة بلا تأصيل، المتروكة للثقافة الشفوية الشعبية القائمة على النقل والقص والقيل والقال، يجد الباحث المدقق او المحلل السياسي نفسه بدون أرضية معرفية متماسكة يقف عليها، مثل وجود مسح اجتماعي موثوق، او تحقيق صحافي استقصائي منشور، او أي مادة مكتوبة، تُشخّص ظاهرة "استشهاد الفتى مرتين" هذه، التي لم يصح توثيقها في حمأة القتال، ان لم نقل ان من غير المفيد استقصاء دوافعها وبيان ديناميتاها وتعليل روافعها السياسية، سيما في هذه الآونة من الحرب التي تضطرم أكثر وتتسع تدريجياً.
غير ان ما يحفز المرء على القيام بهذه المحاولة الشاقة، والجري وراء مكنوناتها الدفينة، بحثاً عن ينابيع ظاهرة الاستشهاد مرتين في جنين، ناهيك عن شقيقاتها شمالي الضفة الغربية وجنوبها، هو ما راح يتواتر اخيراً من أحاديث للإعلام، ادلت به شخصيات اعتبارية مرموقة، ورجالات من عالم الاكاديميا والاجتماع والثقافة والعلوم، فضلاً عن مراسلي الصحف والشبكات الإخبارية، لماماً وعلى نحو متفرّق، عن وجود هذه الحالة المثيرة للانطباع، حالة اخذت تتجلى أكثر من ذي قبل مع اشتداد المواجهات على جبهة الضفة المحتلة، جنباً الى جنب، وبالتوازي مع احتدام حرب الإبادة على غزة.
ومع انه يمكن العثور على مثيلات تحاكي هذه الحالة في ازمنة سابقة من تاريخ الكفاح الفلسطيني، الا ان ما نحن بصدده في هذه العجالة هو أكثر وضوحاً واكتمالاً مما سبق، بفضل زيادة درجة المعرفة العامة، وتحسّن القدرات الذاتية على النقل والسرد والتدوين، من جانب الضحايا وذوي الصلة المباشرة بالوقائع التي كانوا هم أنفسهم شهوداً عليها، حيث تبدو جنين المدينة والمخيم، أكثر من اخواتها، حاضنة متميّزة لأبطال هذه الحكاية، التي لا يستطيع خيال روائي الاتيان بمثلها.
بالعودة الى ينابيع هذه الحالة، التي ترقى الى ضفاف ظاهرة كفاحية فلسطينية مضيئة، نجد ان جنين، والمخيم القائم على اكتافها، قد شهدا معاً، قبل 22سنة، اشد وأطول وابلغ معركة خاضتها المقاومة خلال إعادة احتلال الضفة الغربية المحتلة، ابلى فيها المقاتلون البلاء الحسن، قاتلوا بشراسة منقطعة النظير، اذهلت الغزاة واجبرتهم على الانكفاء بعد أيام دفع خلالها الاحتلال خسائر باهظة في الأرواح بلغت 28قتيلاً، وهو ما شكل منذ ذلك الوقت نُدبة في الوعي الإسرائيلي.
في تلك المعركة التي انتزعت فيها المدينة والمخيم، عن جدارة تامة، لقب "جنين غراد" استشهد العشرات من المقاومين الشباب، وتركوا وراءهم اولاداً، بعضهم في سن الفطام، وبعضهم اجنة في ارحام الأمهات، حمل هؤلاء بعد ولادتهم أسماء آبائهم او اعمامهم او الاخوال الشهداء، تربوا في أجواء المقاومة، كبروا في مناخ وطني شديد المضاء، ورثوا عن اصلابهم الصلابة والبنادق والرجولة والروح العصية على الانكسار، وهاهم يعودون الى ميدان المعركة اياه من جديد بذات الكنية ونفس الاسماء،
يستشهد الواحد منهم للمرة الثانية، ويصعد محمد الابن الى السماء، ليقابل محمد الاب وجهاً لوجه.
رغم ندرة المعطيات وشدة الافتقار الى سِير ابطال ملحمة "طوفان الأقصى" في قطاع غزة، واليوم في الضفة الغربية، فان السيرة الذاتية لبعض هؤلاء الفتية، وهم جميعاً في أوائل العشرينات من العمر،
خصوصاً في جنبن ونابلس وطولكرم وطوباس، أمثال محمد جابر (أبو شجاع) وإبراهيم النابلسي وباسل الاعرج، وغيرهم ممن استشهدوا مرتين في خضم كل هذه المواجهات التي تجل عن الوصف، هم الأبناء الذين ظلوا مسكونين بآبائهم على مدى عقدين وأكثر، فبدا الابن وهو يتنكب درب ابيه كمن كان يكتب بخط يده، حرفياً، نص شهادة ثانية في سفر الخلود.