عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Aug-2025

اغتيال الشهود على المحرقة*د. أشرف الراعي

 الغد

لم يعد صوت الحقيقة يرتفع في قطاع غزة؛ فالصحفيون على بعد ثانية واحدة من القتل أو الاختطاف أو التعذيب وبدون سبب واضح سوى أنهم يعملون في القطاع الصحفي الذي هو «حارس الحقيقة» وكاشفها الأول.. اغتيال الشهود على المحرقة التي ترتكب بدم بارد.
 
 
مع بداية هذه الحرب كُتب الكثير عن الاستهداف الممنهج للصحفيين.. اليوم يرتفع عدد الصحفيين الذين قضوا من أجل الكلمة، لكن صوتهم الذي كان يفترض أن يكون هو الذي يرتفع «اختفى من وسائل إعلامهم».
 
أكثر من 240 صحفياً قضوا منذ بداية الحرب وحتى اليوم، وهو جانب آخر من القتل المبرمج للحقيقة، التي لا يريد «العالم الحر» أن يراها واضحة وجلية كوضوح الشمس؛ فالناس في غزة يموتون «جوعاً وقتلاً وتهجيراً وانتهاكاً لأبسط حقوقهم الإنسانية»، فيما يبالغ العالم في صمته وخذلانه لهم بعيداً عن أي حسابات سياسية؛ حيث لم تراعِ آلة الموت العسكرية أن هؤلاء مدنيين وليسوا في نزاع أو حرب مباشرة.
أمام هذا المشهد المؤسف تنهار كل القيم والمبادئ التي ينادي بها القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني والتي درسناها في كليات الحقوق؛ فالقانون الدولي الإنساني، وبموجب المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، ينص صراحة على أن الصحفيين الذين يؤدون مهام مهنية خطيرة في مناطق النزاع يُعدون (يعتبرون) أشخاصاً مدنيين يجب حمايتهم، شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كمدنيين، كما تؤكد المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على حظر القتل والتعذيب والمعاملة القاسية بحق المدنيين، وتشمل هذه الحماية الصحفيين في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية».
أما المراسلون الحربيون المعتمدون مع القوات المسلحة، فقد خصتهم المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة بحماية خاصة، حيث يعاملون كأسرى حرب إذا أُسروا، وتضمن لهم المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول المعاملة الإنسانية وحظر الاعتداء على حياتهم وسلامتهم وكرامتهم.
هذه النصوص مجتمعة ترسم صورة واضحة؛ فاستهداف الصحفيين جريمة «مركبة» إذ تمثل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، وجريمة حرب، وقد ترتقي إلى جريمة ضد الإنسانية عندما يكون القتل منهجيا ومتعمدا.
لكن ما يجري في غزة اليوم هو انقلاب على هذه القيم، إذ تحول الصحفي من «ناقل للحقيقة» إلى هدف مباشر للرصاص والقصف، وكأن قتل الشاهد هو السبيل الأمثل لدفن الشهادة.. إن استهدافهم المتعمد لا يرقى فقط إلى مستوى «جريمة حرب» بل يتجاوزها ليكون «جريمة ضد الإنسانية»، لما فيه من اعتداء ممنهج على حق الشعوب في المعرفة، وحرمان المجتمع الدولي من أداته الأبرز في توثيق الحقائق.
كما أن عجز المجتمع الدولي عن محاسبة الجناة وإيقاف نزيف الدم هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام ثقافة الإفلات من العقاب، ويشكل سابقة خطيرة تشجع على استباحة الأرواح تحت ذريعة «الضرورات العسكرية»؛ فمتى يفهم العالم أن حماية الصحفيين ليست ترفاً إنسانياً، بل هي حماية للحقيقة ذاتها؟ ومتى يتحرك الضمير العالمي لوضع حد لقتل الكلمة قبل قتل صاحبها؟
إن واجب المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، أن تضع هذه الجرائم في صدارة أولوياتها، وأن تُفعل آليات التحقيق والمساءلة، وأن تبعث برسالة واضحة مفادها أن استهداف الصحفيين هو خط أحمر، وأن الحقيقة – مهما حاولوا دفنها – ستبقى حية، يرويها كل قلم حر وكل عدسة شجاعة، حتى تنتصر العدالة ويعلو صوت الضمير الإنساني على هدير آلة الحرب.. وإلا ستبقى آلة القتل في مواجهة الصحفيين.. وستبقى العين غير قادرة على مواجهة المخرز.. وسيبقى الموت يسير مختالاً في كل مكان.