عن المسرح.. سألوني!*د. زيد حمزة
الراي
عندما سُئلتُ في احد المنتديات الخاصة عن رأيي في أزمة المسرح الاردني آثرت أن أنقل الاجابة الى هذه الصفحة كي أحظى بما يثري انطباعاتي فأنا مجرد مُشاهد مزمن، شغوف بهذا الفن العالمي الجميل، فكتبتُ:
ما دام المسرحُ، كسواه من الفنون، وسيلة إمتاع وابداع وتثقيف، فقد ثبت كذلك أنه فعْلُ احتجاجٍ وانتقاد، وما دامت جذورُه عميقةً في تاريخ الشعوب منذ آلاف السنين حتى أنها ابتنتْ من أجله مدرجاتٍ تتسع لأعداد كبيرة من الجمهور، وأتقنَ مصمموها في وقت مبكر جداً طرق التغلب على مشاكل الصدى وتداخل الذبذبات ليصبح سماع الخطاب على خشبته صافياً واضحاً كما الغناء والموسيقى، تمهيداً لما يسمى اليوم «الهندسة الصوتية».. وما دام دورُه قد تطور مع الزمن فأصبح ينطوي على تقاليد اخلاقية راسخة تعتز بها امم عريقة ذات ثقافات مختلفة وهي تفا?ر بفنّانيها التاريخيين سواء منهم الممثلون او المخرجون أو المؤلفون وكتّاب المَشاهد او النصوص..
وما دام في الواقع أنماط متنوعة تعبّر في أغلبها عن مكنون المشاعر ومكبوتها، فتُنفّس عن غضب الناس حين يغضبون وتطلق ضحكاتهم حين يبتهجون وتثلج صدورهم حين تحرقها الأشواق..
ما دام المسرح كلَّ ذلك وأكثر، فلماذا عندنا لم يستقر له حالٌ يسرّ البال ولم يكن له وجود متفاعل مع حياتنا الاردنية إلا لماماً وعلى وهَن، فلا يتذكره الناس إلا عندما يعنُّ لاحدٍ التباكي على اوضاعه الحزينة ثم يستنهض الهمم لدعمه و إعانته؟! فبدلاً من أن يبحث بشجاعة سر تعثره كثقافةٍ لا كملهى، وأن يكشف بصراحة عن عزلته المجتمعية وهبوط مستوى تدريبه المهني الاكاديمي، حتى لو كان في هذه او تلك ما يمس بعض المسلّمات السياسية او الاجتماعية، فإنه ينحو المنحى الأسهل ويشارك في الثرثرة عن ضائقته المالية وشح امكاناته اللوجستية ?استنهاض الهمم الخيرية لدعمه وإعانته، ويلجأ لتمييع أزمته بمطالبة المسؤولين ببناء دار اوبرا في العاصمة عمان تكلّف مبالغ طائلة، وهو يعلم انها بكل مظاهرها وفخامتها ليست الحل الواقعي !
كخلفية تاريخية، أتذكر ولا أظنني أغالي إذا قلت بأنني، مثل كثيرين من ابناء جيلي، رافقت المسرح معظم حياتي محباً له كفن ترفيهي جميل ومتحمساً يتمنى له تحقيق الافضل، منذ محاولاته الطفولية الاولى في شرق الاردن حين كان المكان الوحيد المتاح له هو سينما البترا قرب سيل عمان بمبناها البدائي البسيط المسقوف بألواح الزينكو، وكان الممثلون هواةً من طلاب المدرسة الثانوية دون أي تدريب احترافي، حدَّ ان يقوم بعضهم اعتباطاً بالأدوار النسائية(!) ويقوم مديرها الأقدر والأقسى في تاريخها (حمد الفرحان) بمهمة المخرج، ولمن لا يعرف فان ?لك الدار السينمائية المتواضعة الإمكانات كانت في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي تستضيف على مسرحها فرقاً فنية عربية كبيرة، أبرزها من مصر كفرقة يوسف وهبي (مع امينة رزق) للدراما، وفرقة نجيب الريحاني للكوميديا، ومن لبنان وسوريا فرق غنائية استعراضية كفرقة بديعة مصابني وبعدها سهام رفقي ذائعة الصيت بأم العباية!
ثم بعد ذلك اثناء دراستي الجامعية في مصر (أم الدنيا)، ورغم اكتساح السينما لميدان التسلية والترفيه، وجدتُ نفسي مولعا ايضا بالمسرح، وشهدتُ بوعيٍ سياسي مبكر انعطافته القوية بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ تمثلت بدخول تيار فكري تقدمي جديد من كتاب الرواية والنصوص والسيناريو كعبد الرحمن الخميسي وعبد الرحمن الشرقاوي ونعمان عاشور وغيرهم، الى ان أدهشنا فيما بعد الاختراقُ اللافت للشاعر الشعبي صلاح جاهين بمسرحية «الليلة الكبيرة» على مسرح البالون بمصاحبة الملحن المبدع سيد مكاوي وآخرين..
اما عن صحبتي المحدودة للمسرح العالمي استمتاعاً به ونهلاً من ثقافاته المتطورة كلما سنحت الفرص وكان أطولها اثناء دراستي العليا قبل ستين عاماً في بريطانيا، حيث إرث ُشكسبير العظيم وقاماتٌ جدّت مثل پيتر اوستنوف، ثم وجدتها حرةً مستقلة في نيويورك و شيكاغو و تورنتو امتداداً للمسرح الإنجليزي، كما في كلٍّ من موسكو او لينينغراد أو طوكيو أو بيجين او ريو دي جانيرو او بوغوتا لكن لكل منها روائعها ذات النكهة الخاصة والعبق المكاني المختلف.
بالعودة الى بلادنا، في الخرطوم مثلا وبعد اسابيع قليلة من الإطاحة بالدكتاتور العسكري عمر البشير شاهدت عملاً فنياً حيّا وشعرتُ كأن الشعب كله كان على خشبة المسرح يحتفل بعودة الديمقراطية للسودان، وضمن منتدىً ثقافي كبير في أربيل قبل ستة عشر عاما كانت المسرحية الأبرز ترفع عاليا راية الديمقراطية ووحدة التراب العراقي بعد عقود حالكة الظلام من حكم القهر والطغيان! وفي سوريا ظل مسرح دريد لحام في قلوبنا وعيوننا يقتحم الحدود والحواجز ناقداً ساخراً ونبرة الأمل لا تفارقه حتى في أقسى الظروف.
وبعد.. فان المسرح الاردني الطموح، وهو هنا بيت القصيد، وقد رأيته عبر أجياله المتعاقبة يشق طريقه بعناد، حتى وهو يختنق احياناً في عزلة لم يخترها قط لنفسه بل فرضتها عليه عوامل اجتماعية وظروف سياسية، وسوف يواصل مسيرته كي يحتل موقعه الصحيح تحت الشمس وفي كل بيت اردني.. دون أن ينسى ابداً شقيقه الفلسطيني.