الراي
من السذاجة اعتبار طيّ سنوات ترمب الأربع السوداء, فلسطينياً وعربياً وعالمياً مجرد سحابة عابرة وأن سياسة الولايات المتحدة التي لا يرسمها شخص واحد ولا يطبعها بطابعه وخبرته وايديولوجيته لن تتغيّر، كما هي حال دول الاستبداد, أو تلك التي ترى في الانتخابات الرئاسية مُجرّد "تجميل" لقباحات الديكتاتورية, التي تتغنى بالدورات الانتخابية الرئاسية لإقناع نفسها بأنها دخلت دائرة الدول الديمقراطية,حيث يتداول "شخص واحد" الحكم بعد تعديلات لا تنتهي في الدساتير المرشحة للاختراق والتجاوز.
سياسة واشنطن في عهد بايدن ستختلف بالتأكيد عن "إرث" ترمب العدواني, وإن كانت بعض تجلياتها لن تختلف في الجوهر عمّا واصَلَته منذ النصف الثاني للقرن العشرين, تكريسه من هيمنة وعدوانية ومعاداة لحركات تحرّر الشعوب والوقوف ضد حقها تقرير مصيرها, رغم تشدُّقها الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من الرطانة الإمبريالية المعروفة، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وبروزها قوة وحيدة, تسعى بلا كلل لكتابة جدول أعمال "مُوحَّد" للعالم, تحت طائلة العقوبات والغزو والحصار والنبذ, وتدبير الانقلابات وتخطيط المؤامرات وشنّ حملات الشيّطنة والإتّهام بدعم الإرهاب.
صحيح أن بايدن لن يكون "ماما تريزا", وربما لن يطمح إلى نيل جائزة نوبل كما فعلت لجنة نوبل مع رئيسه باراك أوباما, الذي لم يُنجز عملاً يستحق عليه هذه الجائزة الرفيعة ولكن "المُسيَّسة"، بل أشعل حروباً ومارس جرائم ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية, في افغانستان والعراق وسوريا وخصوصاً اليمن عبر الطائرات المُسيَّرة, إلاّ أنه – بايدن – لن يكون بعدوانية وطيش ومُراهقة ترمب السياسية, التي أرهقت العالم وبثّت أجواء من التوتّر وتسريع اندلاع الحروب, ليس لسبب سوى ضحالة ثقافته وغياب الخيال السياسي والأبعاد الاستراتيجية للصراعات في عالم اليوم عن ذهنه, وسلوكه الإستعراضي الذي لم يُلحق أضراراً بشعوب ودول عديدة, وإنما أيضاً بمكانة ودور بلاده "المُضخّم كثيراً", رغم ما يُحاوله المُعجبون العرب بالرجل الأبيض, خصوصاً الأميركي والصهيوني.
يدرك بايدن أن عالم ما بعد ترمب وخاصة ما بعد السنوات الثماني التي قضاها نائباً لباراك أوباما, ليس هو ما كان عليه في العام 2008 عندما سكن البيت الأبيض أول رجل أسود، ولهذا سيَطرح مقاربات مختلفة قد تكون تكتيكية وقد تأخذ طابعاً مُتشدِّداً, لإثبات حضوره ورسم صورة الرجل الحازم والمكتسب خبرة عميقة في السياسة الخارجية, لكن ذلك لن يكون بنسخة ترمبية, وهذا في حد ذاته مدعاة لتوقّع تخفيف التوتر والاحتقان في المشهد الدولي, الذي قد يشهد أيضاً توتراً في علاقات واشنطن بموسكو خصوصاً وايضا الصين وايران (إذا ما حاول "فتح" الاتفاق النووي للعودة إليه ولكن بنسخة مُنقّحة ترضي إسرائيل, وتنزع أنياب البرنامج الصاروخي/الباليستي وليس فقط النووي).
مُريح طيّ صفحة ترمب رغم تجذّر الترامبية في المجتمع الأميركي واحتمال حدوث تغيير في المنطقة العربية, ليس منوطاً ببايدن وحده وإنما أيضاً في "السياسات العربية" التي لا تُبشر بإمكانية حدوث ما "قد" يُجِبر بايدن "تعديل" ما كرَّسته الترامبية, في واقع العرب البائِس الراهن.