عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Jun-2025

التكنولوجيا والوقت: هل ننجز كثيرا و"نعيش" قليلا؟

 الغد-ربى الرياحي

 هل منحتنا التكنولوجيا وقتا إضافيا أم سرقته؟ أم أنها ببساطة أعادت تشكيله؟ هو سؤال يستوقفنا لنراجع علاقتنا بالزمن، وبأنفسنا.
في بدايتها، منحت التكنولوجيا حياة أكثر سهولة. جاء البريد الإلكتروني بديلا عن الرسائل الورقية، وظهرت الأجهزة الذكية لتقرب المسافات وتختصر الجهد، وساعدتنا في إنجاز مهام متعددة بسرعة وكفاءة. ومع تطور التطبيقات، تغيرت أنماط التفكير، وأصبح الوصول إلى أي معلومة لا يحتاج سوى ثوان معدودة.
 
 
لكن، هل هذا يعني أننا أصبحنا نملك وقتا أكثر؟
في الواقع، التكنولوجيا لم توفر لنا وقتا إضافيا، بل أعادت تشكيله. لم تزد عدد الساعات في يومنا، بل غيرت طبيعة ما نفعله خلالها. صرنا ننجز أكثر، لكن دون شعور بالاكتفاء. دخلنا في سباق دائم مع الزمن، نركض ولا نتوقف، حتى فقدنا الشعور بقيمة اللحظة.
نرد على الرسائل في أوقات الراحة، ونسمح للآخرين باقتحام مساحتنا الخاصة. نعيش الواقع، لكن عقولنا معلقة في عالم رقمي بعيد جدا عن الهدوء.
يرى سامر حسين (36 عاما) أن التكنولوجيا لم تسرق الوقت بالكامل، لكنها أيضا لم تهبه لنا كما ينبغي. ما فعلته فعليا هو أنها أعادت تشكيله، فحولته من مساحة نعيش فيها مشاعرنا وتجاربنا إلى مجرد مؤشر للإنجاز والمقارنة.
ويشير سامر إلى أن التكنولوجيا، من وجهة نظره، ليست خيرا مطلقا ولا شرا خالصا، بل هي أداة يمكن لكل شخص أن يوظفها بما يناسب احتياجاته. يقول: "نحن من نقرر كيف نتعاطى مع العالم الرقمي، علينا أن نستخدمه بوعي دون إفراط، حتى لا نجد أنفسنا في دوامة من التشتت والقلق والاحتراق".
لكن، كما يقول سامر، أخطر ما فعلته التكنولوجيا أنها زرعت وهم السيطرة على الوقت، بينما السرعة التي منحتنا إياها دفعتنا للركض أكثر، للإنجاز أكثر، وللتراكم أكثر… لكن دون أن نعيش أكثر.
أما ليان، فترى أن الحياة قبل ظهور التكنولوجيا كانت تقاس بحقيقة الأفعال. كان من يستيقظ باكرا، يعمل بيده، ينجز مهمة، ثم يعود إلى عائلته، يشعر بأنه عاش يوما حقيقيا.
اليوم، كما تقول "نعمل طوال الوقت، بلا فرق بين الليل والنهار، نرسل عشرات الرسائل في دقائق، نحضر اجتماعين في وقت واحد، ونحصل على المعلومة بلا جهد، ومع ذلك، نشعر بأن الوقت لا يكفينا ولا نجد لحظة هادئة نعيشها دون أن يثقلنا الضجيج الرقمي الذي بات يلف حياتنا كلها".
تقول؛ التعب أصبح شعورا يوميا. التكنولوجيا سهلت الكثير من المهام وأراحت أجسادنا، لكنها بالمقابل زاد الانشغال ذهنيا طوال الوقت. الدقيقة الواحدة صارت تحتمل عشرات المهام الصغيرة، لا نرتاح بعدها، ولا ننجز شيئا كبيرا ايضا.
إرهاق ذهني غير مرئي
وتشير الاستشارية النفسية والأسرية والتربوية حنين البطوش إلى أن التكنولوجيا أعادت تشكيل مفهومنا للوقت والإنجاز، لكنها في المقابل أضعفت شعورنا بالرضا الداخلي. فكثرة المهام الرقمية والتنقل السريع بين التطبيقات تسبب إرهاقا ذهنيا غير مرئي، حيث يعمل الدماغ دون توقف، حتى في لحظات الراحة الجسدية.
هذا التسارع خلق ضغطا نفسيا مستمرا، وشعورا دائما بأن هناك شيئًا يجب إنجازه. ورغم كثرة خيارات الترفيه، تراجعت قدرتنا على الاستمتاع الحقيقي، بفعل التشتت الذهني، وإدمان التنقل المستمر بين المنصات الرقمية، وفق البطوش.
في بعد الهوية الذاتية، لعبت التكنولوجيا دورا عميقا في إعادة تشكيل العلاقات، فمع صعود منصات التواصل الاجتماعي، لم نعد ننظر إلى ذواتنا من الداخل بقدر ما أصبحنا نراها من خلال عدسة الآخرين.
كثرة المقارنات اليومية سواء في المظهر، ونمط الحياة، والإنجازات أضعفت شعور الكثيرين بالرضا عن أنفسهم، حتى وإن كانوا يحققون أهدافهم وينجزون.
بات التقدير الذاتي مشروطا بعدد الإعجابات والتفاعلات، ما تسبب في تآكل الشعور بالإنجاز الحقيقي، وحول الحياة اليومية إلى محتوى قابل للتوثيق أكثر من كونها تجربة تعاش بوعي.
هل تغير مفهوم الإنجاز؟
والنتيجة؟ بحسب البطوش سؤال يتردد: هل نعيش ما نفعله حقا… أم ننجزه فقط لنظهره؟ هل نحيا لأجل ذواتنا، أم من أجل المتابعين؟ وفي ظل التحولات الرقمية المتسارعة، تغير مفهوم الإنجاز. لم يعد يقاس بعمق الأثر أو جودة النتيجة، بل بسرعة الإنجاز وتراكمه.
ظهرت ما يمكن تسميته بثقافة "الإنجاز اللحظي"؛ حيث تنجز مهام كثيرة في وقت قصير، لكنها تفتقر إلى العمق والامتداد الزمني.
وأمام هذا التدفق السريع للمهام الرقمية والنجاحات السطحية، بدأ كثيرون يهملون جوانب الإنجاز الإنساني الحقيقي: صلة الرحم، الإحسان، ممارسة الهوايات، قراءة كتاب بتأن، أو حتى التواصل الهادئ وجها لوجه. كما استبدلت بعض القيم العميقة بتسليم سريع لمهام قصيرة. وصار تراكم الإنجاز لا يعني بالضرورة شعورا بالرضا، بل أحيانا يكون مجرد مؤشر على أننا "ننجز كثيرًا… لكن نعيش قليلا".
 وتنوه البطوش انه في خضم الانشغال التكنولوجي، تآكلت واحدة من أعمق قيم الإنسان: الوقت كقيمة روحية. لم يعد هناك وقت لما يعرف بـ"الفراغ الصحي، وفق البطوش، ذلك الفراغ الضروري الذي يعيد شحن النفس والعقل، وينعش الإبداع والصفاء الداخلي". فبدلا من عيش الوقت بوعي، أصبحنا نستهلكه بلا إدراك، ننتقل من مهمة إلى إشعار، ومن شاشة إلى أخرى، دون لحظة صمت تمنحنا الإحساس بالمعنى.
ووتضيف البطوش أن التكنولوجيا اثرت بعمق على الأجيال الجديدة، حيث نشأ الأطفال والمراهقون في بيئة تسير بإيقاع متسارع، حيث كل شيء متاح بضغطة زر.
هذا النمط السريع قلل من قدرتهم على الصبر، وأضعف مهارة "تأجيل الإشباع"، وهي من المهارات الأساسية للنضج الانفعالي واتخاذ القرار السليم.
اعتماد مفرط على الأجهزة
ويأتي الاعتماد المفرط على الأجهزة في تلبية الاحتياجات اليومية، من الطعام إلى التعليم والترفيه، إلى تراجع مهارات الحياة الواقعية، مثل حل المشكلات، التواصل الوجهي، وحتى القدرة على التحمل الجسدي والنفسي للتحديات اليومية.
وبينما تمضي التكنولوجيا بسرعة البرق وتدفعنا إلى الاستجابة الفورية والتنقل المستمر، لا يزال الجسد والعقل الإنساني يعملان بإيقاع أبطأ، ويحتاجان إلى الراحة والنوم والهدوء لإعادة التوازن.
هذا التباين بين السرعة الخارجية والبطء الداخلي تراه البطوش أن يتسبب بالتوتر المستمر، حيث يشعر الإنسان أنه في سباق لا ينتهي، رغم أن طاقته النفسية والجسدية لا تحتمل هذا النسق المتسارع.
ومع الوقت، يؤثر هذا الاختلال على جودة الحياة، ويُضعف مناعة الفرد النفسية والجسدية، في ظل غياب فترات الاسترجاع الضرورية التي يتطلبها التكوين البشري.
وتذهب خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم إلى أن التكنولوجيا قدمت وسائل سريعة وفعالة للتواصل، مثل الهواتف الذكية، وتطبيقات المراسلة، ومكالمات الفيديو.
كما كان لها دور كبير في تسهيل الوصول إلى المعرفة، بفضل الإنترنت والمنصات التعليمية، وانتشار التعليم الإلكتروني.
وللتكنولوجيا ايضا مساهمة واسعة في مجال الرعاية الصحية، إذ ساعدت في تطوير الأجهزة الطبية، وتحسين طرق تشخيص الأمراض، ومتابعة الحالات عن بعد، بحسب إبراهيم.
 تسهيل إنجاز المهام اليومية 
وترى إبراهيم التكنولوجيا وفرت الوقت والجهد، من خلال الأجهزة المنزلية الذكية والخدمات الإلكترونية التي سهلت إنجاز المهام اليومية بسرعة وكفاءة، فإن أثرها امتد إلى مجالات أوسع، فضلا عن فرص جديدة للعمل والابتكار، وأسهمت في ظهور وظائف غير تقليدية في مجالات مثل البرمجة، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الإلكترونية.
لكن، ورغم هذه الإيجابيات، لا يمكن تجاهل آثار التكنولوجيا السلبية على الحياة اليومية للأفراد. فأحد أبرز هذه الآثار هو العزلة الاجتماعية بحسب ابراهيم، إذ أدى الاعتماد المفرط على الأجهزة إلى تراجع التواصل الإنساني الطبيعي، وضعف العلاقات الواقعية بين الناس.
كما ساهم الاستخدام المفرط للتكنولوجيا في خلق ظاهرة الإدمان الرقمي، ورافقها تشتت ذهني، ضعف التركيز، وشعور دائم بالضغط والتوتر. وبينما تسهل الأجهزة الذكية الحياة، فإن الإفراط في استخدامها يضر بجودة النوم، ويزيد من معدلات القلق والاكتئاب.
ولا يتوقف الأثر عند الصحة النفسية فحسب، بل يمتد إلى الصحة الجسدية. فالجلوس لساعات طويلة أمام الشاشات يسبب مشكلات في الظهر والعينين، ويقلل من مستويات النشاط البدني، مما يؤثر سلبا على نمط الحياة والصحة العامة.
 الخصوصية والأمان الرقمي
ومن الجوانب الأكثر خطورة كذلك، تؤكد إبراهيم أنها تكمن بفقدان الخصوصية والأمان الرقمي. فمع تزايد استخدام الإنترنت، أصبحت البيانات الشخصية أكثر عرضة للانتهاك، وظهرت جرائم إلكترونية مثل الابتزاز، الاحتيال، سرقة الهوية، والتجسس، ما جعل الأفراد يعيشون في حالة من التوتر المستمر، بعيدين عن الشعور بالهدوء والأمان، لذلك، من الضروري أن نعيد النظر في علاقتنا بالتكنولوجيا، فنتعامل معها كأداة مساعدة، لا كمصدر للإدمان أو بديل كامل عن الواقع. ويجب أن نعزز العلاقات الاجتماعية الواقعية، ونعيد الاعتبار لقيم التواصل الإنساني.