الديمقراطية.. الميلادُ العسير*د.نهلا عبدالقادر المومني
الغد
في كتابه الديمقراطية وحقوق الإنسان يؤصل الدكتور محمد عابد الجابري لإشكاليات فكرية وعملية ضاربةٍ في العمق، تعيقُ الوصول إلى الديمقراطية التي تتوق لها الدول العربية وشعوبها، الديمقراطية التي تعدّ-وفق الكاتب- ضرورةً لا من أجل التقدم وحسب، بل أيضًا من أجل الحفاظ على الوجود العربي ذاته.
إشكاليات عديدةٌ طرحها الجابري، راسمًا في ثنايا العناوين المتلاحقة بدائل وسُبل النهوض منها، لعل أبرزها:
الإشكالية الأولى: أنّ من الثوابت التي حكمت وما زالت تحكم علاقة الفكر العربي النهضوي بالفكر الأوروبي الحديث والمعاصر أنّ ما يظهر من أفكار ونظريات في أوروبا كنتيجة لمسلسل من التطور قد يمتد قرونًا إلى الوراء، يأخذه الفكر النهضوي العربي كمقدمة يبني عليها تطلعاته وطموحاته النهضوية، وبعبارة أخرى أنّ ما كانّ مشروطًا أو معلولًا يؤخذ هنا كشرط أو كعلة. ومن ذلك مسألة الديمقراطية وفهم أبعادها وتجلياتها وضرورة العمل على استنباتها في تربتنا؛ حتى تكون على صلة عضوية بمعطيات واقعنا، الشيء الذي من دونه لا يمكن أن تتحول إلى محرك للتغيير وعامل محفز للتجديد ومؤسسٍ للتقدم.
الإشكالية الثانية: تقوم الديمقراطية في جوهرها على حرية الاختيار، وليختار المرء يجب أن يكون حرًا: أن يريد، وأن يعرف ما يريد، ولماذا يريد، ويملك القدرة على تحقيق هذا الذي يريد. وهنا تؤطر علاقة الحرية بالإرادة، وهي علاقةٌ كثيرًا ما شغلت بال المفكرين والفلاسفة، فالحرية تصبح استعبادًا واستغلاًلا إذا كان هناك تفاوت في القدرة على التمتع بها. إنّ حرية الشعب لا تعني غير الاستبداد والاستغلال إذا كان أفراده يعيشون في أوضاع تتحكم فيها اللامساواة.
كيف يكون الفقراء أحرارًا جنبًا إلى جنب مع الأغنياء؟ كيف يكون الجهال والأميون أحرارًا مع من يملكون سلاح العلم والتفكر! إنّ الجائع لا يمكن أن يختار لأنّه ليس باستطاعته أن يريد إلا شيئًا واحدًا: هو الخبز. والجاهل لا يمكن أن يختار لأنّه وإن تمكن من أن يريد فإنّه لا يعرف ما يريد، ولماذا يريد ولا يملك القدرة على تحقيق إرادته.
الإشكالية الثالثة: غياب الفهم المتجذر للدور المحوري الذي تلعبه الديمقراطية كضرورة قومية ووطنيّة لتحقيق الاندماج على صعيد القرية والمدينة والقطر والوطن العربي ككل…؛ فالديمقراطية تؤدي إلى قيام صراعات، ولكنّها صراعات أفقية، أي طبقة ضد طبقة وأيديولوجيا ضد أخرى وعقلية ضد عقلية، والنتيجة في هذا الصراع هو ظهور الجديد من جوف القديم والوصول إلى نتائج جديدة وبالتالي تحقيق التقدم. أما غياب الديمقراطية فهو لا يؤدي إلى انتفاء الصراع وإنّما يصرفه إلى القوالب العتيقة كالقبيلة والطائفة وغير ذلك؛ مما يجعل منه صراعًا عموديًا، حيث يقف الفقير والغني في صف ليقاتلا الفقير والغني في الصف الآخر، مما يجعل الصراع فتنةً واقتتالاً وتدميرًا للذات.
يختم الجابري أحد فصول كتابه والذي جاء بعنوان «الديمقراطية ..الميلاد العسير» بالإشارة إلى أنّ المطالبة بالديمقراطية في الوطن العربي، هي في الحقيقة مطالبة بإحداث انتقال نوعي لم يشهد عالمنا الفكري ولا السياسي ولا الاجتماعي والاقتصادي له مثيلًا، لذا لا بدّ من نفس طويلٍ ولا بدّ من عمل متواصل. وإذا حدث وأسفرت تجربة الديمقراطية في بلد ما عن غير ما كان يجب أن تسفر إليه، وإذا أعقبها أو رافقها ما هو غير ديمقراطي إطلاقًا، فينبغي أن لا نفقدّ إيماننا في الديمقراطية ذاتها. فالديمقراطية في مجتمعاتنا ليست قضيةً سهلة، وليست انتقالًا من مرحلة إلى مرحلة، بل هي ميلادٌ جديد وبالتأكيد ميلادٌ عسير.