عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jan-2019

«حكايا على ورق من زجاج» لـــ هديل الرحامنة..
الرأي - د.حكمت النوايسة -
 
في مجموعتها القصصية «حكايا على ورق من زجاج»، تنثر هديل الرحامنة نصوصها في المنطقة الشائكة بين ما هو واقعي وخيالي، بتجسيرٍ واضح من خلال علائق تنقل الواقعي إلى الخيالي ممكن الحدوث، مكتفية بالمرور على شخصيات تمارس طقوسها الحيوية، على الورق أحياناً، وفي الشوارع أحياناً.
 
ولكن هذه المجموعة القصصية -وهذا المهمّ- تتجاوز مجرد السرد من أجل السرد إلى ما هو أبعد من ذلك، فالقصّة عند الرحامنة تقول ما تقوله بعد أن ننهي قراءتها، أي أننا نسجم في القراءة، ثم ننسجم أكثر إذا ما ذهبنا إلى ما هو أبعد من متعة القراءة، أي إلى المعاني الدائرة خارج القصّ الخالص، والسرد الخالص، والوصف الخالص.. والسرد عندها مليء بعبارات تتجاوز السرد المكلّف بتقديم الحدث، تتجاوزه إلى لغة وعبارات ذاهبة إلى تكريس معانٍ جديدة، تشبه إلى حد كبير الحِكَم التي تنثرها من خلال المادة المسرودة، على لسان البطل حيناً، وعلى لسان الراوي في معظم الأحيان، فالراوي جاء في معظم القصص كلّي العلم، ولكنّه يترك مساحات بيضاء نملؤها بخبراتنا الخاصّة عن المادة المقدّمة.. حتى في المادة المقّدمة بوصفها حواريّة، لنا أن نتساءل كما في النقد الحديث: من الذي سمع هذا الحوار؟ وهي أسئلة شائكة أتركها جانباً وأنا أقدّم/ أقرأ هذه المجموعة الممتعة، وأعاين ما فيها من جدة وطرافة، لكاتبة أقرأ لها لأول مرّة، ولعلّها التجربة القصصيّة الأولى لها.
 
وكما قلت حول الراوي، الذي يبدو كلّي العلم في الغالب، فإنّ المؤلّف الضمني لا يخفي صوته، ويأتي الصوت على شكل شذرات وجمل غير منسوبة لأحد، ولكنّها جمل توجيهية في كثير من الأحيان، تشير إلى ما يضمره السارد الضمني/ المؤلف من مواقف ورؤى في الحياة ومعطياتها، وأختار هنا مقطعاً من قصّة «لوحة ناقصة» تقول فيه: «حتى بالحب، عليك أن تكون رفيعاً في كل شـيء، حتى ذوقك، في هذا الوقت من العمر تعود إلى غريزتك الأم، كل ما يكفيك هو الاحتفاظ بالرغبة، تُصبح هي المُمتعة، فتجعلك تستمتعُ كما القصة بتفاصـيل البداية لأنك اعتدت سابقاً أن الأخير هو فقط النهاية» (ص 21).
 
فهذا القول لم يقله أحد أبطال القصّة، ولم تقله شخصية من شخصياتها، وإنما قاله الراوي، ونحن لا نعرف شيئاً عن هذا الراوي، لا نعرف ما الثقافة أو التجربة التي تتيح له أن يقول مثل هذا، كما أنّنا نستطيع أنّ نقول إن مثل هذا الكلام صحيح أو خاطئ، كل وفق تجربته الخاصة، ولكن ما يهمّنا هنا أن مثل هذا الخطاب، عندما يرد في القصّة أو في الرواية، بهذه الصورة غير منسوب إلى أحد، فإنه يعدّ عنصراً توجيهياً، أو مفتاحاً تأويلياً، وللناقد أن يقف عنده طويلاً، فقد يقف من خلاله على الأيديولوجيا التي يحملها المؤلف، أو الراوي الضمني، وقد يقف من خلاله على الإرسالية الخاصّة للنص، وهي الإرسالية التي تغيب عن كثير من الكتّاب، حتى الكبار منهم، ويسجَّل لصاحبة المجموعة الصادرة عن «الآن ناشرون وموزعون» (2018) أنّها تنجح في دمج مثل هذه الرؤى في القصّة دون أن يكون الخطاب ناشزاً أو منفّراً أو يبدو أنّه خارج سياق السرد.
 
ولنتمثل على ذلك بقصّة «النوافذ المفتوحة»، والتي تروي بلسان الراوي العليم حكاية رجل يتربّص بيتاً ليسرقه، ثم يدخله مطمئناً بعد مراقبة، ليقع في المأزق، المأزق الذي كان ينتظره في البيت، فقد وجد صاحبة البيت قتيلة، ووجد بعد قليل الشرطة يقبضون عليه، وزوج القتيلة يصرخ بوجهه: لماذا قتلت زوجتي؟ (ص73).
 
ولنا أن نقف هنا عند هذا التلخيص، ولكننا لن ننفذ إلى ما نبتغيه، وما قلناه سابقاً، فالقص فن قول، لا فن سرد وقائع، ومن هنا نبحث عمّا وراء هذا السرد، فنجده من خلال خطاب القصة غير المنسوب إلى أحد مثل: «الليل لا يَعني نهاية النهار، بل إنه حاسة الأحلام، بداية اللصوص وطقس آخر للأحزان. حتى لصوص الحُبّ يَقتاتون على أشلاء المدينة والنَّاس نيام، والحزن يرتع بالسكون ويقتات على الليل، تجده قائماً، واقفاً، قاعداً لا ينام» (ص73).
 
نتساءل: من الذي يقول هذا الكلام؟ هل هو السارد الذي اعتدنا عليه، يجلس ويعطي المواعظ، أم السارد الضمني المتخفّي في تضاعيف القصّة، ويظهر رأسه بين الفينة والأخرى، دون أن ننتبه إلى ذلك؟
 
هي أسئلة تدور والقارئ يقرأ قصص الرحامنة.. وهي دعوة لقراءة هذه المجموعة لأنّها تنم عن وعي حقيقي بكتابة القصّة، وامتلاك الأدوات الحقيقية لذلك، فضلاً عمّا في هذه المجموعة من تحرير للكتابة من معيقات قد تبدو حقولاً صعبة، ولكنّها عارضة في هذا العالم المليء بالهراء الذي يأخذ مكان كلّ مهم وجميل، وتصبح فيه الهوامش أهمّ كثيراً من المتون، وتصبح فيه الشروحات أهمّ كثيراً من النصوص.