عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Nov-2025

الشرق الأوسط في قلب تنافس القوى الكبرى*د. محمد الطماوي

 الراي 

يشهد الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكل واسعة في خريطة النفوذ السياسي، مدفوعة بتنافس اقتصادي محتدم بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب صعود أدوار لقوى صاعدة مثل الهند، هذا التنافس لم يعد عسكريا أو أمنيا فقط كما كان في العقود السابقة، بل أصبح اقتصاديا في جوهره، يعتمد على الاستثمارات، وبناء الموانئ، وممرات الطاقة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، وهو ما جعل المنطقة مركزا لإعادة توزيع موازين القوى على المستويين الإقليمي والدولي.
 
تاريخيا، كانت الولايات المتحدة اللاعب المهيمن في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، إذ ضمنت تدفق النفط العالمي، وأقامت تحالفات أمنية مع دول الخليج، وحافظت على وجود عسكري دائم في المنطقة، غير أن العقد الأخير شهد تراجعاً نسبيا في النفوذ الأمريكي، لصالح توسع متسارع للصين التي باتت اليوم أكبر شريك تجاري لمعظم دول المنطقة، حيث بلغت قيمة استثماراتها المباشرة في الشرق الأوسط نحو 29.7 مليار دولار مقابل نحو 7 مليارات فقط من الولايات المتحدة وفقاً لتقديرات مؤسسة كارنيغيعام 2024.
 
روسيا من جانبها تحافظ على حضورها التقليدي في مجالات الطاقة والسلاح، مستفيدة من علاقاتها القوية، ومن عقود الغاز والنفط التي تبرمها مع دول مثل مصر والسعودية، ومع ذلك فإن نفوذها الاقتصادي يبقى محدودا مقارنة بالصين، رغم محاولتها فتح قنوات مالية وتجارية جديدة بعد الحرب الأوكرانية، لتخفيف آثار العقوبات الغربية، هذا التعدد في اللاعبين يخلق بيئة معقدة، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع مصالح الدول الإقليمية، وتتحول المنافسة الاقتصادية إلى أداة لإعادة توزيع الأدوار السياسية في المنطقة.
 
لم تعد الدول الشرق أوسطية تقبل أن تكون مجرد ساحات نفوذ لقوة واحدة، بل باتت تنتهج ما يعرف بسياسة “التوازن المتعدد”، فتنسق أمنيا مع الولايات المتحدة، وتستثمر مع الصين والهند، وتتعاون دبلوماسياً مع روسيا وأوروبا، هذا التنوع في العلاقات يمنحها استقلالية أكبر في القرار السياسي، ويجعلها قادرة على المناورة بين القوى المتنافسة، فالسعودية مثلا، حافظت على تحالفها الأمني مع واشنطن، سارعت في عمل اتفاقية دفاع مشترك من جهة أخرى مع باكستان النووية، لكنها في الوقت نفسه أصبحت الشريك الاقتصادي الأكبر لبكين في المنطقة، وهو ما منحها مساحة تفاوضية أوسع، ورفع من قيمتها الاستراتيجية في عيون جميع الأطراف، أما الإمارات فقد نجحت في أن تتحول إلى مركز مالي وتجاري عالمي يستقطب الشركات الأمريكية والأوروبية والآسيوية في آن واحد، بينما تتجه مصر إلى تعزيز موقعها كممر رئيسي للتجارة والطاقة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا من خلال قناة السويس والمناطق الاقتصادية المحيطة بها.
 
في هذا السياق الجديد، لم يعد النفوذ يقاس بعدد القواعد العسكرية أو التحالفات الأمنية، بل بحجم الاستثمارات، وقدرة الدول على جذب رؤوس الأموال، واحتضان المشاريع العابرة للحدود، فالقوة الناعمة الاقتصادية أصبحت أكثر تأثيراً من القوة الصلبة في صياغة موازين النفوذ، الصين مثلاً لا تفرض شروطاً سياسية على شركائها كما تفعل القوى الغربية عادة، بل تقدم حزم تمويل واستثمارات ميسرة، وهو ما يجعلها أكثر قبولا في بعض الدول النامية، وفي المقابل، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إعادة صياغة استراتيجياتهما عبر برامج مثل “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية” لتوفير بدائل منافسة للمشاريع الصينية.
 
الأرقام تكشف حجم التحول في مركز الثقل الاقتصادي، فالسعودية وحدها تنتج نحو 12% من النفط العالمي، وتبلغ قيمة اقتصادها أكثر من 1.1 تريليون دولار، ما يجعلها ثاني أكبر اقتصاد عربي بعد مصر، التي تعد وفق تقرير راند كوربوريشن الدولة الأكثر قابلية لاستقطاب التنافس بين القوى الكبرى بسبب موقعها الجغرافي ومكانتها الإقليمية، أما الإمارات فصناديقها السيادية تتجاوز أصولها مجتمعة تريليون دولار، ما يجعلها قادرة على توجيه الاستثمارات نحو آسيا وأوروبا في الوقت ذاته، وهو ما يعزز دورها كوسيط ومركز نفوذ مالي، هذه الأرقام توضح أن النفوذ لم يعد يحتكر من الخارج، بل أصبح للدول الإقليمية دور متزايد في صياغته وتوجيهه.
 
ومع ذلك، فإن هذا التنافس لا يخلو من مخاطر. فالتوسع في الاعتماد على الاستثمارات الخارجية قد يضع بعض الدول تحت ضغط القوى الكبرى، خاصة إذا ارتبط التمويل بشروط سياسية أو أمنية، كما أن تصاعد التنافس بين الصين والولايات المتحدة قد يحول المنطقة مجدداً إلى ساحة صراع غير مباشر، عبر العقود، والتجارة، والتحالفات الاقتصادية، ولهذا، تحتاج دول المنطقة إلى إدارة دقيقة لعلاقاتها الخارجية، تحفظ لها استقلال القرار دون أن تفوت فرص التنمية، فالموازنة بين الانفتاح على الاستثمارات وبين حماية السيادة الوطنية أصبحت معادلة شديدة الحساسية.
 
من جهة أخرى، فإن التنافس الاقتصادي يوفر فرصاً غير مسبوقة لتسريع التحول التنموي، دول الخليج، على سبيل المثال، تستثمر الفوائض المالية في مشروعات الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا، والمدن الذكية، وتعمل على جذب الاستثمارات الغربية والآسيوية في آن واحد. ومصر تواصل تعزيز موقعها كمحور لوجستي إقليمي من خلال المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بينما بدأت الأردن والمغرب وموريتانيا في الدخول إلى سوق الهيدروجين الأخضر الذي تتنافس فيه أوروبا والصين، هذه التحولات تجعل من المنطقة مختبرا لاقتصاد ما بعد النفط، وتحوّل المنافسة بين القوى الكبرى إلى مصدر تمويل للتنمية وليس عبئاً جيوسياسياً فقط.
 
إن خريطة النفوذ السياسي الجديدة في الشرق الأوسط تتشكل على قاعدة منطق “الشراكة لا السيطرة”. فالقوى الكبرى لم تعد قادرة على فرض إرادتها كما في السابق، والدول الإقليمية لم تعد مجرد أدوات، بل باتت أطرافاً فاعلة تحدد مصالحها وفقاً لأولوياتها الوطنية، النفوذ لم يعد حكراً على الغرب، بل بات موزعاً بين الشرق والغرب معاً، وفق منطق اقتصادي متشابك، يعكس توازنات جديدة في النظام الدولي.