«يافا.. بوينس آيرس.. يافا» ورحلة ترسيخ الهوية الفلسطينية
الدستور-د. عماد الضمور
تعدّ المعاناة الفلسطينية ملهمة لكثير من الأعمال الإبداعية؛ لما لها من تأثير عميق في الذاكرة والفكر البشري، أنتجت شعراً ومسرحاً ورواية وقصصاً وسينما وفناً تشكيليّاً خالداً، وروحاً وحياة. إذ تأتي رواية «يافا.. بوينس آيرس.. يافا» لمحمد جميل خضر في هذا السياق تُعرّف بمبدعيّن فلسطينيين من أبناء مدينة يافا الفلسطينية، وتتخذ منهما شخصيتين رئيسيتين تتمحور حولهما الرواية، وتنبثق من وحيهما الأحداث، لينطلق السرد مجسّداً لعذاباتهما المستمرة، ورحلتهما لترسيخ الهوية الفلسطينية في النفوس. إذ أبرزت الرواية صراع الهوية والأسئلة القلقة المقلقة، كما في حديثه عن شخصيته الرئيسة بدري محمد غازي في الأرجنتين:» يزيح ستارة النافذة المطلة على شوارع باليرمو وأشجارها ومطاعمها، يأخذ نفساً من بحرٍ بعيد، تكاد أنفاس البحر الذي داهمه فجأة، تغرق نهر لا بلاتا القابع هناك في الشمال الحزين لبوينس آيرس، يكاد موجه المتدفق يعيده إلى غيبوبة الأسئلة التي لا تنتهي: أسئلة الوجود والهوية والتعايش واللغة ولهجاتها والهجرة وسرمديتها» (الرواية، ص20).
تتناسل أحداث الرواية من خلال شخصيتي: محمد غازي، وصبري الشريف، لتمثل الهجرة الفلسطينية في أصقاع المعمورة، وفي هذه الرواية بالتحديد إلى أمريكا الجنوبية، وما انبثق عن هذه الهجرة من رفد للحضارة الإنسانية بالمواهب والإبداعات المختلفة. إنّها هجرة مرّة لكنها منتجة للمعرفة والثقافة والحضارة معاً.
الهوية والذاكرة والهجرة والصراع الحضاري كلها مفردات باتت حضارة في الرواية بوصفها مفاتيح نصيّة ومتواليات سرديّة مهمة رفدت البناء الروائي بالأفكار والرؤى والأحلام، فلولا الهجرة لما ظهر صراع الهويات وهذا الاختبار الصعب الذي تحياه الشخوص في مجتمعات مختلفة، لتبقى الذكريات تطارد الشخوص، ويبقى الحنين إلى وطن الأجداد هو الفكرة الرئيسة المسيطرة على الكاتب، إذ تُعرّف الرواية بمبدعين تتخذهما شخصيتين محوريتين تختلف معهما الأزمنة وتفترق بهما الأمكنة، لكن يبقى الوطن يحملهما في قلبه النابض بالحياة.
أشار (لوسيان غولدمان) إلى أن الرواية تبحث عن قيم أصيلة في عالم منحط، وعليه فإن عالم الرواية يبحث عن قيم أصيلة في عالم منحط قابل للتأويل، وإعادة إنتاج مضامينه، بوصفه عالماً متخيلاً قائماً بذاته، وإن تداخل مع العالم الموضوعي.
تُشير رواية»يافا .. بوينس آيرس .. يافا» لمحمد جميل خضر إلى لقاء حضاري حدث بفعل هجرة شخوص الرواية إلى أمريكا الجنوبية، إذ حاول الروائي إعادة كتابة تاريخ الشخوص الذين يمثلون فعلاً حضارياً وهويّة وطنية راسخة، إذ إن أحداث الرواية تنحو إلى البحث عن القيم الروحية في صراعها المستمر مع حضارة العصر أو حضارة المجتمع المهاجر إليه. كما جاء في قول صبري الشريف:» فإذا اعتبرنا أن إقامتي في بيروت هي نتيجة غربتي عن وطني وطردي منه، فإن تلك الغربة القريبة من الوطن تبعها غربة شعبنا إلى بلاد أبعد، وأبعد، فصارت حياتهم كما لو أنها انتقال من غربة إلى أخرى، ومن رحيل إلى رحيل، حتى باتت حقيبة السفر تميمة وجودهم وثيمة شعرائهم، ووطنهم البديل المتلخص ببضع غيارات داخلية وقميص وبنطلون وكتاب وفرشاة أسنان»(الرواية، ص200).
تمتاز شخوص الرواية بأنها منتميّة إلى قيم الخير والإنسانية رغم عداء المجتمع الآخر، ممّا يُبرز في كثير من صفحات الرواية البطل الإشكالي، فكانت معاناة الشخوص في قدرتها على التعايش مع المجتمعات الجديدة.
تقترب الرواية كثيراً من الرواية التاريخية، حيث الإحساس الحاد بالزمن، ومحاولة فهمه وتشخيص معناه. إذ يقف عند شخصيات بعينها محاولاً رصد حركتها الزمنية والمكانية.
يذهب الناقد (مارت روبير) إلى أن « الرواية جنس لا قانون له» وهي مقولة خطيرة ومهمة في الوقت نفسه، تتعلق بطبيعة الفن الروائي بعيداً عن المقولات النظرية التي تضع حدوداً ثابتة، متجاهلين استجابة الرواية لكثير من التطورات البنائية أو الانفتاح الأجناسي المتعدد فنيّاً وثقافيّاً.
وعندما نتحدث عن الهوية بمفهومها العام لا الأجناسي، فإنه لا وجود لأيّ شعب بدون هويّة جامعة له، لذلك بقي المكان في الرواية جزءاً من الهوية (يافا) مكان مركزي في الرواية تتجسّد بثراء فكري وعاطفي خصب منتج للسرد والأحداث معاً، يختزن طاقة فطرية قادرة على مواجهة التحديات.
تتداخل السيرة الغيريّة مع فن الرواية في رواية «يافا .. بوينس آيرس .. يافا»فهي رحلة مكانية ذات أبعاد زمانية مختلفة تندرج ضمن رؤية الشخوص لواقعها، وصراعها من أجل البقاء والتمسك بهويتها بعيداً عن عوامل التغيير والزوال، لذلك فإنها تعمد إلى سرد ذاتها بلغتها وأفكارها ورؤاها وتقاليدها ضمن منظومة فكرية تقبل التعدد الفكري لكنها في النهاية تتمسك بموروثها الفكري وأنسقتها المتعددة التي تأسست عليها حركة الشخوص وانبثقت من خلالها تصرفاتها.
تتشابك أحداث الرواية وفق وقائع قصيرة مستقلة من الناحية الشكلية عن بعضها البعض لكنها ترتبط جوهريّاً بقصة إطارية تنبثق منها الأحداث، فشخصيتا محمد غازي وصبري الشريف تتناسلان عبر الرواية، تقومان برحلة طويلة من الوطن (يافا) إلى أمريكا الجنوبية ثم العودة إلى الوطن، رحلة التمسك بالهوية رغم اختلاف المجتمع البشري والأنظمة السياسية والاقتصادية، ممّا جعل من الرواية ـ إضافة إلى كونها رحلة مكانية ـ رحلة ذهنية فكرية أكثر منها رحلة جغرافية، فالمعنى الظاهري للعنوان (يافا .. بوينس آيرس .. يافا)يكوّن أمكنة وجغرافيا، لكن المعنى الباطني لما وراء هذه الأمكنة كمن معاناة حقيقية تكشف عنها معاناة الشخوص في غربتها وصراعها مع أنظمة فكرية وسياسية مختلفة.
الظاهر في رحلة الشخصيتين عدم التخطيط المسبق للرحلة، إذ إنّ التساؤل والروح القلقة والسعي لمعانقة الوطن هو القاسم المشترك بينها/ فضلاً عن تمتعهما بوعي اجتماعي وفكري واضحين.
إنّ عودة الشخصيتين إلى الوطن ( يافا) في لنهاية عودة جاءت في سياق رمزي من جهة ، ومنوطة بصراع عميق مع محتلّ غاشم ، إنّها عودة إلى الوطن بمفهومه الأسمى، ونقائه الناصع. فمهما اختلفت الأزمنة، وافترقت الأمكنة فإن الوطن يجمع محبيه.
إنّ المعالجة الروائية لموضوع الرحلة وتفصيلاتها أنتجت رواية ذات عوالم وأخيلة وأفكار ورؤى، إذ تنهل الرواية من عنصري المغامرة واكتشاف المجهول الذي يواجه حركة الشخوص، إذ جاءت الأحداث مشحونة بعنصر المفاجأة وعفوية السرد مع ميل إلى الوصف الدقيق للأمكنة وانعكاساتها الفكرية في حركة الشخوص، ممّا أدّى إلى طول الرواية نسبياً، لتكتمل حركة الشخوص في انطلاقتها من الوطن ثم عودتها إليه مجدداً، وهي عودة تحمل في طياتها انتصاراً للهوية الفلسطينية ومقاومتها لكلّ عوامل الطمس والإلغاء.
يبدو الزمن الخارجي واضحاً في الرواية، وهو زمن يبقى عند طرفي الرواية، أيّ البداية والنهاية، وبالتالي فهو زمن موضوعي مرتبط بالزمن التاريخي وما يحويه من موضوعات اجتماعية وإنسانية بشكل عام.
إنّ الانتقال بالزمان (لعبة الأزمنة) يأخذ عدواه من لعبة الأمكنة فمن فترة الحكم العثماني للولايات العربية وما تخللها من حروب مع الامبرطورية الروسية، بين الزمان والمكان تنبثق الشخوص بأفكار ورؤى متّقدة، ممّا سمح بتعدد الأصوات في الرواية بحثاً عن الهوية في ظل اختلاف الأزمنة والأمكنة والأيدلوجيات.
يبرز السرد ثم الوصف بوصفهما تقنيتان مهمتان في الرواية لإبراز الشخصية بكافة أبعادها الجسدية والنفسيّة والاجتماعية.
نقرأ في الرواية صفحات مطوية من تاريخ يافا وقصص النضال الفلسطيني المستمرة، إذ تنهض يافا من جديد متوهجة في النص، وتنفض عنها غبار السنين وعتمة الاحتلال لترتد إلى جذرها العربي وروحها الحرّة، ونفسها الأبية، وسهولها الخصبة.
لقد حضرت شخصيتا صبري الشريف وبدري محمد غازي بوصفهما بؤرة مركزية وموضع السرد ينطلق الخطاب منهما ويتمحور حولهما بدلالته وثرائه المعرفي، تتبدّى من خلالهما ضمائر المتكلم والغائب والخطاب؛ لتمارس طقوسها السردية ومن خلال تبادل الضمائر التي تنتج حالة من الاتساق والانسجام بين مكونات العمل الروائي.
ضمير المتكلم يرتبط بالحوار الداخلي الذي يتعاظم في الأزمات النفسية التي يتجلّى من خلالها الصراع الداخلي (مأساة ابنته التي تتخلى عن ثوبها العربي وعاداتها، إذ أصبحت تمارس طقوس والدتها في بلاد الغربة) مما تسبب بألم داخلي ومرارة للبطل.
وعند الانتقال لضمير المتكلم فإننا ننتقل إلى منولوج ومناجاة تُخرج الرواية من طابعها البوليفوني السردي القائم على تعدد الأصوات إلى منولوجية الصوت الواحد(البطل).
إنّ الترابط العضوي بين قصص الرواية وفصولها واضح، ولا عجب في ذلك فهي تسرد سيرة بطل، لذلك فإن التماسك العضوي بات مرافقاً لصفحات الرواية مع تنوع الأساليب الفنية فيها.
يظهر الانتقال إلى ضميري الغائب والمخاطب واضحاً فالتركيز على البعد الخارجي للشخوص يبدو جليّاً من خلال الاستقلاليّة والدقة في تصوير العالم الخارجي.
إنّ رواية الكاتب البوليفوني ذات رؤية إنسانية تحمل قيماً إنسانية سامية ترفض القبول بالقيم المادية الزائلة وتُعلي من قيمة الهوية بوصفها قيمة وحياة. فالمنظور الشخصي واضح في سرد الأحداث كذلك الأسلوب الفردي للشخوص، ممّا يجعل المتلقي يختار المنظور الأيدلوجي الذي يوافقه؛ لتنوع الحياة والمواقف وتعقد المأساة الإنسانية.
إنّ تداخل الرواية مع فن السيرة أسهم في طول عدد صفحات الرواية وتضخم السرد الذي انفلت في الرواية، ممّا أوقع الكاتب في اللغة الإخبارية أحياناً، فضلاً عن ظهور الأسلوبالإعلامي في التعبير أحياناً أخرى، فالكاتب يسرد مسيرة شخصيتيه الفنية، كما في قوله:» في بغداد التقى الرجلان بناظم الغزالي، وكان قد عاد لإكمال تعليمه في معهد الفنون الجميلة ، وكان تعرف عليه الفنان الفلسطيني روحي خماش عندما زار بغداد بدعوة من الملك فيصل ، فما كان من خماش عندما علم بأمر سفرهما إلى بغداد ، إلا أن حمّلهما رسالة للغزالي، مزوداً إياهما بعنوانه في حيدر خانة المنطقة المنسيّة المثقلة أيامها الفقر»( الرواية، ص161). إلا إنّ خصوصية المكان الفلسطيني تبقى مسيطرة على روايته، إذ عندما يقترب من يافا يقترب من الشعريّة حيث الذكريات والحنين والأمن، فكانت لغة العشق؛ لتبقى الرواية صورة للجيل الفلسطيني الناهض المؤثر الذي يواجه آثار النكبة وانكساراتها بلغة الحبّ والتضحية والإنجاز.