الغد-أحمد الشوابكة
بحيوية ونشاط ما يزال السبعيني سمير سليمان أبو الزلف الذي يعد واحداً من أقدم التجار في مادبا، يقف في دكانته التي ما تزال تحاكي ذلك الزمن البعيد، وتحمل كل الذكريات، بحلوها ومرها في كل ركن بهذا المكان الصغير.
دكانة أبو الزلف الشاهدة على من مروا على قلب سوق مدينة مادبا القديم، ما تزال تحتفظ بطرازها المعماري العتيق منذ أن استأجرها والده الذي قدم إلى مادبا من مدينة عين كارم بفلسطين، كما أن الرفوف التي صنعها أقدم حدادي المدينة ما يزال عمرها يقاوم الزمن، مع إدخال بعض التغييرات البسيطة بما يتناسب ومتطلبات العصر.
سطور حكاية السبعيني سمير أبو الزلف خطت بمدينة مادبا في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، لحظة والده الراحل سليمان أبو الزلف، ليجد من مدينة مادبا موطناً له، “يلقط” فيه رزقه ورزق أولاده.
عمل سمير المكنى “أبو كايد” مع والده في تجارة الخضراوات منذ عشر سنوات، وفكر والده بعد ذلك في فتح بقالة في قلب سوق مدينة مادبا القديم، الذي كان وما يزال عصب وشريان الحركة التجارية والشرائية.
تشرب أبو كايد مهنة أبيه، فأدار المحل وشقيقه الأصغر”فؤاد”، وتحمل معه مشاق وصعوبات تلك الأيام قبل أن ينفصل عنه ويفتح متجرا خاصا به؛ إذ كان يحمل على كتفه (شوالات) السكر والأرز والعدس التي يصل وزنها إلى 50 كيلوغراما، إلى أن امتلك فيما بعد بقالته الخاصة، يسانده في ذلك أبناؤه.
ويحزن أبو كايد” كثيراً على تلك الأيام التي كلما استذكرها غرق في حلاوتها وضنكها؛ إذ كان يسري باكراً إلى الدكان، يرافقه شقيقه الأصغر، حيث ينتظرهما والدهما على جمر، لأنه يحتاج إليهما.
وفي خضم انهماكه المتواصل في العمل، ما يزال أبو كايد يرى مهنته في تلك الأيام نابضة بالحياة، “لن تلحق بها أيامنا هذه، مهما تغلّفت بالمغريات”، كما يقول.
ويردف أبو كايد، كان الناس يتحابون ويتآلفون، وكأن بينهم رباط محبة ووثيقة شرف في التكافل.
ويشرح، كان الناس آنذاك يصدقون في المواعيد، فقد كان الضمان هو كلمة الشرف، و”كان الرجل ينمسك من لسانه”، وفي تلك الأيام “كنا نوزّع الصحف، لقد ظلت صحيفتا “الدفاع” و”الصباح” تصدران حتى مطلع الستينيات.
ويقول أبو كايد، “كانت الدكانة متنفساً طبيعياً لوجهاء المدينة، الذين كانوا يتجمعون ليقرأوا فيها الصحف، وفي خضمّ القراءة كانوا يتناولون مواضيع عدة”.
وينوه إلى أن السوق القديم كان فضاء للبيع والشراء، والتعاملات بين الناس، مضيفا “هذا السوق كان يقترب من موقع السرايا الحكومية القديمة، أو “الحكمدارية”. فقد كانت هذه الأخيرة تستخدم محكمة لفترة طويلة، ثم تحولت إلى مركز أمن المدينة، لتصبح فيما بعد متحفاً تابعاً لوزارة السياحية.
ويؤكد أبو كايد بقوله، “أنا وشقيقي الوحيدان اللذان حافظا على مهنة ورثناها منذ سنين، ونحن وأبناؤنا من بين تجار يمتلكون محال لبيع المواد الغذائية التموينية”.
ويعود أبو كايد إلى تفاصيل مهنته في هذه الدكانة العتيقة؛ فيقول “كنا نبيع القمح والشعير، بعد أن نشتري هذه الحبوب من مزارعي المنطقة، وكنا نستخدم مكيال (الصمد) وسعته 12 كيلوغراما من القمح، و10 كيلوغرامات من الشعير؛ إذ كان يباع القمح للمستهلك آنذاك بسعر 3-10 قروش للصمد الواحد”.
ويضيف، كان من بين المعروضات على رفوف الدكانة، كما يقول أبو كايد “الحلويات المصنعة من السكر وكانت تسمى “حامض حلو”، وكان من أبرزها “الكعكبان” الذي كان يباع على شكل صفائح، ووزن كل منها يساوي أوقية من الرطل الشامي، ما يعادل 200 غرام في أيامنا هذه”.
وكانت القطعة تباع بنصف قرش أو أكثر قليلا، كما يقول، وبحسب حجمها، إضافة إلى حلويات “الراحة الشامية” المعطرة، و”أبو شعر”الذي هو نوع من “التوفي”، والحلاوة، وقمر الدين، وخسف البلح.
وكان السكر، وفق أبو كايد، يصنع ويباع بأشكال هندسية، منه ما يكون على شكل مخروط، وكانوا يسمونه “محقان”، ولكل وزنه الخاص، إضافة إلى ذلك، سكر “الداش” الذي كان على شكل مربعات صغيرة.
وكان التجار آنذاك، بحسب أبي كايد ، يبيعون سروج ولوازم الخيل والدواب التي كان يصنعها أبناء منطقة مادبا، ولوازم ما يسمى بـ”الكيف”، أما القهوة فكانت من أجود الأنواع، وكانت تباع بـ5 قروش للرطل الواحد، وكذلك الحال لبيع البهارات.
وللمدخنين قصة أخرى مع دكان أبي كايد؛ إذ يبين أنهم كانوا مغرمين بدخان (الهيشي)، فقد كان هذا النوع يُزرع في المنطقة، إضافة إلى الدخان الشامي الأشقر.
أما السجائر المصنعة التي كانت تباع في المحل، فما تزال في ذهن أبي كايد؛ إذ يذكر “الأتومان”، حيث تحتوي العلبة التي كانت تسمى بـ”الصفط” على 52 سيجارة، تباع بـ10 قروش. كما ما تزال في ذاكرة أبي كايد أشياء كثيرة أخرى، منها؛ دخان “النجاح” و”التطلي سرد”، و”السبورت”، حيث تحتوي العلبة على 20 سيجارة تباع بقرشين ونصف القرش.
وينهي أبو كايد حديثه بالقول، “تبقى مادبا وناسها الأحب إلى قلبي”.