الغد
من لم يمت بكأسٍ خمر مغشوش، مات بغيره؛ مثل عملية السلام مع العدو الصهيوني التي قُدّمت للعرب كملهاة انتشى بها العالم العربي باعتبارها ضمان ديمومة الأنظمة العربية من جهة، ومن جهة أخرى رغبة في اغلاق الملف الفلسطيني الذي قضّ مضاجع «الجامعة العربية» لعقود.
ومن لم يثمل بخمر الزرقاء، ثمل بخمر السياسة؛ ذاك الذي يحرم الاغنية ويستمرئ القصف، يلعن العري ويبارك الجوع، ويقيم الدنيا معارضا لمهرجان الألوان، بينما يغض الطرف عن سقوط الانسان.
على عكس مصنع الزرقاء «الهاوي في عملية الغش»، فإن أول قواعد الغش المؤسسي أن يكون السم على جرعات صغيرة، ينتشر شيئا فشيئا في ذهن وضمير الأمة، حتى إذا قوي الجسم على مقاومته ببقاء هزيل، يكون قد أجهز على الروح وفتتها حتى عادت كالعرجون القديم.
أتذكر، يا رعاك الله، عندما كان تحرير فلسطين حالة وطنية عربية، عندما كانت معركة التحرير للإنسان قبل الأرض، وعندما كان يقود المعركة الأدباء والفنانون وقادة الرأي، يرسمون بوصلة العمل الوطني باعتباره توقًا للحرية والاستقلال، وليس كما يجري الآن إدارة للتبعية والاستعمار.
لا بد أنه خمر مغشوش، هذا الذي قُدِّم للأمة منذ الخمسينيات، فكل تجارب التحرر العربي – ولا أستثني أحدًا– شاهدة على ضياع البوصلة وزيغ نظر الأمة.
هل تصدق أن جناحي حزب قومي تناحرا وتآمرا على بعضهما أكثر مما حاربا انتشار إسرائيل وتمددها في تلافيف عقل الأمة؟
أيُعقل أن تجربة الوحدة العربية أغفلت فقه الأولويات السياسية، وتقديم هدف لمّ شمل الأمة وبناء اتحاد عربي فعّال كأولوية على مناكفة السعودية واليمن والأردن؟!
أيعقل أن تتوجه دبابات النظام السوري إلى ثغرة عصفور على طريق جرش إربد بدلا من أن تتمركز في الجولان..؟
أيعقل أن تحارب الانظمة العربية الفكر التقدمي والتنويري بزجاجات «التأسلم» السياسي، فإذا هي الآن من مأمنها تؤتى، لتستمر اللعبة بين من يدعو لشرعية الدولة ومن يدعو لشرعية لأمة متخيلة، وينتهي الأمر أن كلاهما يرابط الآن على تخوم أمة متخلفة علمًيا وقانونًيا وحضاريا واستقلالا اقتصاديا... أمة مستعمرة استعمارًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
وأكيد أن هذا الخمر المغشوش «مُعدِ» ومنتشر، فما يَرشَّح عن عملية السلام بين سورية وإسرائيل الآن كأس جديدة مغشوشة من ذهن الواقعية الانهزامية وفن الممكن اليائس، ومن الصدور في كل العمل السياسي العربي عن عقيدة فاسدة في أن تشظي هذه الأمة قدر، وأن إدارة موتها أولى من خلق الحياة لها.
لا، لا أريد أن أُفتي على الرئيس الشرع كثيرًا، ولكني أدعوه بصدق لأن ينظر في كأس السلام المغشوشة الذي قُدِّم للأمة العربية.
إسرائيل ليست شريكًا للسلام، بل هي عدو في نزاع وجودٍ، وليس نزاعَ حدود.
أعرف كم صارت هذه العبارة إنشائية، ولكن الواقع يثبتها يومًا بعد يوم كحقيقة واضحة في ذهن المشروع الصهيوني.
أنه سلام مغشوش، هذا الذي يجعل هذه الكتلة البشرية العربية بمليوناتها المئة تسكت عن قتل من يُطاردون طرد خبزٍ للبقاء على قيد الحياة في غزة.
ضحايا بخمر الزرقاء المغشوش انتهت رحلتهم – الله يرحمهم – أما نحن، فلم نستحق بعد هذا الرحمة بالموت.
طوبى لمن وجد النصر في التشفي بموت ضحايا المصنع وقبلها ضحايا غزة، لا شك أن خمركم من نوع ممتاز، ولن يمنحكم شرف الموت والخروج من المشهد،
مشهد يدعو للكآبة، جنابك...