الغد
في خطوة تصعيدية جديدة، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تنفيذ عملية برية محدودة في وسط وجنوب قطاع غزة، وهو تطور يحمل أبعادًا إستراتيجية عميقة تتجاوز النطاق العسكري إلى تداعيات سياسية وأمنية واسعة. تأتي هذه العملية في سياق سعي إسرائيل إلى تحقيق أهداف ميدانية قصيرة المدى، تتمثل في تعزيز سيطرتها الأمنية على محاور إستراتيجية داخل القطاع، لكنها تعكس أيضًا حسابات سياسية تهدف إلى فرض معادلات جديدة على الأرض قبل أي تسوية محتملة.
تنفيذ عمليات برية في غزة ليس بالأمر الجديد، لكنه يحمل في هذه المرحلة أبعادًا مختلفة في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية المحيطة بالصراع. فإسرائيل تسعى إلى ترسيخ معادلة أمنية جديدة عبر استهداف بنية الفصائل الفلسطينية، ومحاولة فصل مناطق القطاع عن بعضها، وتقويض أي إمكانية لامتداد نفوذ المقاومة. يأتي هذا في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية لوقف التصعيد، مما يجعل العملية جزءًا من إستراتيجية تفاوضية غير مباشرة تستهدف فرض شروط أقوى في أي مباحثات مستقبلية.
التصعيد الأخير لا يمكن النظر إليه بمعزل عن المتغيرات الإقليمية، خاصة في ظل التوتر المستمر على جبهات أخرى، مثل الضفة الغربية ولبنان. فالتوغلات الإسرائيلية الأخيرة تتزامن مع تصاعد التهديدات الإقليمية، ما قد يعكس نية تل أبيب في اختبار ردود الفعل الدولية والإقليمية على تحركاتها في غزة، خاصة من قبل اللاعبين الأساسيين مثل الأردن ومصر وقطر. ومن هنا، يصبح واضحًا أن هذه العملية ليست مجرد تحرك ميداني، بل تحمل رسائل سياسية تهدف إلى توجيه ضغوط متزايدة على الفصائل الفلسطينية، وفرض واقع جديد على الأرض قد يكون مقدمة لمفاوضات مقبلة بشروط إسرائيلية أكثر تشددًا.
من جهة أخرى، فإن هذه التطورات تضع الأردن في موقع محوري، نظرًا لدوره التاريخي والسياسي في دعم القضية الفلسطينية، وعلاقاته المتشابكة مع مختلف الأطراف الفاعلة. الأردن، الذي يرتبط بحدود طويلة مع الأراضي الفلسطينية، يدرك أن أي تصعيد جديد سيؤثر مباشرة على استقرار المنطقة، خاصة في ظل حساسية الأوضاع في الضفة الغربية والقدس، حيث يشرف على المقدسات الإسلامية وفق الوصاية الهاشمية. لذلك، فإن عمان تتحرك دبلوماسيًا وسياسيًا لاحتواء الموقف، مستخدمة نفوذها الإقليمي والدولي للضغط من أجل وقف التصعيد، مع التركيز على الحلول الإنسانية التي تتعلق بإدخال المساعدات وتخفيف الحصار المفروض على غزة.
الدور الأردني لا يقتصر على الوساطة الدبلوماسية، بل يشمل أيضًا البعد الإنساني، حيث كان الأردن من بين الدول القليلة التي قدمت مساعدات طبية وغذائية عاجلة إلى غزة، وهو ما يعزز مكانته كداعم رئيسي للفلسطينيين في الأوقات الحرجة. ورغم أن عمان تحافظ على علاقاتها مع جميع الأطراف، إلا أنها تتعامل بحذر مع أي محاولات لتغيير التوازنات على الأرض، خاصة عندما يتعلق الأمر بممارسات إسرائيل في القدس والمسجد الأقصى، والتي قد تؤدي إلى انفجار أوسع يمتد إلى الضفة الغربية.
على المستوى الإنساني، فإن أي عملية عسكرية في غزة تعني مزيدًا من التدهور في الأوضاع المعيشية لسكان القطاع، الذين يعانون بالفعل من أزمة إنسانية خانقة جراء الحصار المستمر. التوغلات الإسرائيلية غالبًا ما تؤدي إلى تدمير المنازل والبنية التحتية، وإجبار المزيد من المدنيين على النزوح، مما يزيد من تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة. وفي ظل غياب حلول سياسية حقيقية، يبقى المدنيون هم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، حيث يدفعون الثمن الأكبر لأي تصعيد عسكري جديد.
أما فيما يخص المستقبل، فإن السيناريوهات المحتملة تبقى مفتوحة على عدة احتمالات. فمن الممكن أن تستمر العمليات الإسرائيلية لفترة أطول، خاصة إذا لم تحقق تل أبيب أهدافها بشكل سريع، ما قد يؤدي إلى مزيد من الضغوط الدولية عليها لوقف التصعيد. بالمقابل، فإن نجاح الجهود الدبلوماسية التي تقودها الدول الإقليمية، بما في ذلك الأردن ومصر وقطر، قد يسهم في التوصل إلى هدنة جديدة، لكنها ستكون على الأرجح مشروطة بإعادة ترتيب الأوراق السياسية والأمنية داخل القطاع.
بغض النظر عن المآلات المباشرة لهذه العملية، فإن الواقع يشير إلى أن التصعيد الإسرائيلي في غزة ليس مجرد حدث عابر، بل جزء من إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي والعسكري في القطاع. ومع تزايد التعقيدات الإقليمية، يبقى الدور الأردني عنصرًا رئيسا في أي مسار للتهدئة، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي وتأثيره السياسي، ولكن أيضًا لأن استقرار المنطقة بأكملها يعتمد بشكل كبير على منع غزة من التحول إلى ساحة حرب دائمة.