عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Dec-2025

يوسف بكّار وعمر الخيام

 الدستور-زياد صالح الزعبي

 
الكتابة عن يوسف بكار «الأستاذ الدكتور «، كتابة تأخذنا إلى أفق فكري ثقافي مفتوح، فهو لم يقصر اهتماماته وشغفه على حقل علمي واحد، وعلى لغة واحدة. إنه يأخذ القارئ إلى مسارات متعددة يميزها عمق معرفي، وقراءات تجاوز الصور المألوفة إلى آفاق مفتوحة. قد تبدأ معه بالنقد العربي القديم الذي بدأه بدراسته عن «اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري»، وأردفه بأطروحته للدكتوراه الموسومة «بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث»، وهي الأطروحة التي غدت مرجعية في بابها، لما احتوته من مادة علمية ثرة، وتحليل عميق للقضايا النقدية.
 
لكن علينا بعد هذا أن تسير معه في غير مسار من مسارات البحث العملي الرصين الذي يأخذنا إلى بحث علمي في: الدارسات الأدبية المعاصرة، والدراسات في النقد القديم، والبحث في الأدب المقارن، وفي الترجمة وبخاصة من اللغة الفارسية. كما أنه لم يغفل عن العناية بالكتب الجامعية التي تسعف الطلبة وترشدهم بأيسر الطرق إلى مداخل تهمهم في اللغة الفارسية، وفي العروض، وفي الأدب المقارن، على سبيل المثال.
 
 لكني هنا سأقف على موضوع أمعن الدكتور بكار في بحثه وقراءته من وجوه متعددة، وهو اهتمامه بالشاعر الفارسي الشهير عمر الخيام الذي طارت شهرته في الغرب والشرق، وربطت هذه الشهرة برباعياته التي ترجمت إلى معظم لغات العالم. وربما كانت ترجمة فيتزجيرالد (Edward Fitzgerald) أشهرها. وسأذهب إلى التركيز على الترجمات العربية للرباعيات، وهي موضوع أثير عند الدكتور بكار. فقد عالج هذا الموضوع من زوايا ومداخل مختلفة في أزيد من عشرين كتابا. ولقد كنت شاهدا على عنايته بالخيام ورباعياته منذ فترة مبكرة. فقد طلب مني في عام 1989 نصوصا مخطوطة لمصطفى وهبي التل، عرار، وكان يحضر لنشر ترجمته، فسعدت بذلك، على ألا ينشر ها، وهذا ما فعله، وهو صاحب الالتزام العلمي الأخلاقي الرفيع.
 
 لعل أول الكتب التي بحث فيها الدكتور بكار حضور الرباعيات في اللغة العربية، وعلى نحو شمولي، كتابه «الترجمات العربية لرباعيات الخيام، دراسة نقدية» الصادر عام 1989 عن جامعة قطر. وفيه استقراء تفصيلي تاريخي نقدي للترجمات العربية للرباعيات، سواء أكانت ترجمات شعرية، أم نثرية، أم منظومات. وهو كما يتضح تسلسل تاريخي مقترن بفعل تصنيفي مهم لشكل الترجمات. وقد توج بكار عنايته الكبيرة بالخيام بتقديم ترجمته الخاصة لرباعيات مختارة يرجح أنها الأصح نسبة للخيام، وذلك في عمله المعنون «رباعيات الخيام، ترجمة أخرى جديدة عن الفارسية» الصادر عن دار «الآن ناشرون وموزعون» عام 2025. وهو بهذا يضيف الترجمة الأردنية الثامنة إلى الترجمات السبع السابقة التي عرض لها في كتابه «الترجمات الأردنية لرباعيات الخيام» الصادر عام 2018.
 
هذه الترجمات الأردنية التي تبدأ بترجمة مصطفى وهبي التل، عرار التي أنجزها في مرحلتين، في عامي 1022 و1925. وكان الدكتور بكار قد نشرها عام 1990 مشيرا إلى ريادة عرار في هذا المجال من الاهتمام برباعيات الخيام وترجمتها. وقد نشر جزءا من ترجمته في مجلة مينرفا التي كانت تصدرها ماري يني عطا الله في بيروت في عشرينات القرن الماضي. وقد اشتبك بسببها مع أمين نخلة، إذ رأى أن ترجمته نخلة للرباعيات غير دقيقة، ولا تحتفظ بروح صاحبها.
 
إن اهتمام الدكتور بكار بالرباعيات وترجماتها عمل قائم على الاستقراء الدقيق لكل ما يتعلق بها، وهو ما يتجلى في كتبه الكثيرة عن الرباعيات، فقد تتبع حضورها في اللغة العربية، حتى لو كانت الترجمة لرباعية واحدة. فإذا وقفنا على كتاب» الترجمات العربية لرباعيات الخيام، الناقصة والمفقودة والمتوهمة» رأينا الدقة العلمية في بيان حقيقية النصوص المترجمة التي تظهر ما يعتريها من نقص أو توهم. كما لا تغيب الإشارة إلى ما هو مفقود منها. ويمضي البحث العلمي إلى قراءة «الأوهام في كتابات العرب عن الخيام»، «وترجمة رباعيات الخيام عن عمريات فيتزجيرالد الأولى» كما ظهرت عند نويل عبد الأحد. ويرى القارئ كيف يذهب البحث إلى عناصر تفصيلية دقيقة كما في كتاب « مترجمو الواحدة من مترجمي رباعيات الخيام العرب قديما وحديثا». وهذا بحث قائم على استقصاء علمي ذي طابع جذري.
 
ويلحظ القارئ ذهاب البحث إلى جهود الأفراد في الترجمة، فيجد كتاب «عامر البحيري ترجمة رباعيات الخيام عن عمريات فيتزجيرالد، أصول وتحرير»، و «أحمد زكي أبو شادي، رباعيات عمر الخيام المنظومة والمترجمة، أصول وتحرير ودراسة» و  «محمد ابن تاويت الطنجي، ترجمة رباعيات الخيام عن الفارسية». و» قيصر المعلوف، رباعيات عمر الخيام المنظومة عن ثلاث ترجمات عربية». ويذهب الدكتور بكار إلى بحث يقف على «جمهرة الترجمات العربية لرباعيات الخيام غير المنشورة في كتب مستقلة»، ويحصي خمسمئة وثمانين رباعية ظهرت في صور نثرية، أو منظومات شعرية. وهو في هذا العمل يذكر المترجم وعدد الرباعيات التي ترجمها. كما يذهب إلى بيان الأصول أو النصوص التي اعتمد عليها المترجمون، وهذا عمل كبير يقدم للباحثين الخياميين مادة علمية رصينة ترشدهم إلى آفاق جديدة في الدرس العلمي.
 
إن هذه الكتب العديدة، التي تمثل صورة لعمل استقرائي لموضوع محدد، تقع في سياق الإحاطة الشمولية التي تقتفي أثر الخيام في الثقافة العربية، وفي مراحل تاريخية متعددة، وعند المترجمين بغض النظر عن مستوى ترجماتهم، أو شكلها، أو عدد الرباعيات التي ترجموهما، أو الصور التي ظهرت بها هذه الترجمات. إن هذه الكتب لتظهر المدى الذي ذهب إليه الدكتور بكار في تقصي ترجمات الخيام إلى العربية، والبحث عن أصولها، وبيان مدى قربها أو بعدها عن النص الفارسي الأصلي، وقد كانت معرفة بكار باللغة الفارسية وأدبها عنصرا فاعلا في كل أعماله عن الخيام ورباعياته.
 
 ويضاف إلى هذا كله ترجمته القيمة لكتاب على دشتي « وقفة مع الخيام، في البحث عن الخيام والرباعيات». وهو كتاب مرجعي عن الخيام ورباعياته. يذهب الدكتور بكار إلى وصف هذا الكتاب بأنه قد يكون أهم ما كتب الخيام، فقد عني بالبحث الجاد عن الخيام ورباعياته، وقام بعمل رائد في التعرف إلى الرباعيات التي يمكن أن تصح نسبتها إلى الخيام، وتلك التي نسبت إليه دون وجه حق، وهي كثيرة على نحو كبير. وقد مكنه من ذلك معرفته العميقة بمواطنه الخيام لغة وثقافة.  
 
وهذه مسألة مثيرة للاهتمام فبين عدد يقترب من أربعمائة رباعية، فمثلا يصل عدد الرباعيات في ترجمة أحمد الصافي النجفي الصادرة عام 1930 الى 351 رباعية، ويصل عددها في ترجمة عبد الحق فاضل الصادرة عام 1951 إلى 377 رباعية، وعدد لا يصل إلى المئة بون كبير يدل على إشكالية تتعلق بصحة نسبتها إلى الخيام، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل الدكتور بكار لا يترجم سوى خمسين رباعية. وحكاية الرباعيات حكاية طويلة، يمكن أن تشغل أجيالا، فهي تساؤلات جذرية تتعلق بالوجود الإنساني على الأرض، وببقائه وفنائه، وتأملاته في حياة مؤقتة عابرة مصيرها المحتوم إلى ذهاب.  
 
تظل الدنيا قائمة إلى الأبد، ولسنا فيها
 
يوم لا يبقى لنا فيه أثر ولا ذكر
 
فليس ثمة من خلل قبل أن نكون وتكون
 
وتظل هي حين لا نكون نحن. (من ترجمة الدكتور بكار).