الغد
روبرت مالي؛ وحسين آغا* - (فورين أفيرز) 16/9/2025
انهارت مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعدما تحولت وعودها حول وقف النار في غزة وحل الدولتين والديمقراطية إلى مجرد أكاذيب متكررة، غطت بها على انحيازها لإسرائيل وعجزها عن إدارة الحروب أو السلام. ومع تراكم الفشل، نسجت واشنطن عالماً موازياً من الأوهام فيما الواقع لا يقدم سوى الدمار والأكاذيب.
على مدار الحرب الطويلة في غزة، كان متوقعاً أن يخرج مسؤول في إدارة بايدن بتصريح من قبيل: إن وقف إطلاق النار بات وشيكاً، والولايات المتحدة تعمل بلا كلل لتحقيقه. إنها تبدي اهتماماً متساوياً بالإسرائيليين والفلسطينيين. وإن صفقة سلام تاريخية بين السعودية وإسرائيل أصبحت قريبة. وكل ذلك مرتبط بمسار لا رجعة فيه يقود إلى إقامة دولة فلسطينية.
لم يكن لأي من هذه التصريحات أدنى صلة بالحقيقة. فقد استمرت مفاوضات وقف إطلاق النار في التعثر. وعندما أسفرت أحياناً عن نتائج محدودة، فإنها سرعان ما انهارت. وقد امتنعت الولايات المتحدة عن القيام بالخطوة الوحيدة التي كان من شأنها أن تدفعها إلى وقف إطلاق النار، المتمثلة في وضع شروط على المساعدات العسكرية لإسرائيل أو وقفها. وكانت تلك الخطوة أيضاً هي الوحيدة التي كان يمكن أن تبرهن، بما يتجاوز الشعارات، على التزام أميركي فعلي بحماية أرواح كل من الإسرائيليين والفلسطينيين. وظلت السعودية تكرر أن أي عملية سلام مع إسرائيل مرهونة بإحراز تقدم نحو إقامة دولة فلسطينية، بينما كانت الحكومة الإسرائيلية تستبعد ذلك باستمرار. ومع مرور الوقت، تكشف خواء التصريحات الأميركية أكثر فأكثر، ولم تلق سوى الشك أو اللامبالاة. ومع ذلك، استمرت واشنطن في ترديدها. هل كان صناع السياسة الأميركيون يصدقون ما يقولون؟ وإذا لم يكونوا يصدقونه، فلماذا واصلوا قوله؟ وإذا كانوا يصدقونه، فكيف تجاهلوا هذا الكم من الأدلة المناقضة التي كانت ماثلة أمامهم؟
لقد شكلت الأكاذيب غطاءً لسياسة مكنت إسرائيل من شن هجماتها الشرسة على غزة، فيما جرى تصوير أي تحسن ضئيل وعابر في أوضاع القطاع الفلسطيني بوصفه ثمرة إنسانية أميركية وتصميم راسخ أميركي. وقد تفاقمت وحشية إسرائيل في عهد إدارة ترامب، لكن الأكاذيب السابقة كانت قد مهدت الطريق لذلك. فهي التي ساعدت على تطبيع القتل العشوائي الذي تمارسه إسرائيل، واستهدافها المستشفيات والمدارس والمساجد، واستخدامها الطعام كسلاح في الحرب واعتمادها المستمر على السلاح الأميركي. لقد هيأت تلك الأكاذيب الأرضية ولم يعد هناك سبيل للتراجع.
ولم يكن هذا الخداع وليد اللحظة، فجذوره تعود إلى ما قبل حرب غزة وتمتد أبعد من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني نفسه. وقد غدا نهجاً مترسخاً. فعلى مدى عقود، تظاهرت الولايات المتحدة بأنها وسيط نزيه فيما كانت في الواقع طرفاً منحازاً. وأطلقت ما سُمي "عملية السلام" التي لم تفعل سوى تكريس الوضع القائم وتعزيزه بدلاً من تغييره. وروجت لسياستها الأوسع في الشرق الأوسط على أنها دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وادعت النجاح حتى حين لم تسفر جهودها سوى عن سلسلة من الكوارث.
ومع انكشاف الأكاذيب وصعوبة التغاضي عنها، تراجع النفوذ الأميركي. وأدار الفلسطينيون والإسرائيليون وسائر الفاعلين المحليين ظهورهم لتلك المسرحية، متجاوزين الشعارات عن حل الدولتين والسلام والديمقراطية والوساطة الأميركية، وعادوا إلى مواقف أكثر مباشرة وجذرية نابعة من تجاربهم الماضية. وكما كان حالهم طوال عقود مضت، وجد الفلسطينيون، الغارقون في الغضب والتعطش للانتقام وسط فراغ قيادي، أنفسهم يلجؤون إلى أعمال عنف متفرقة ضد الإسرائيليين، في انتظار اليوم الذي تنسق فيه تلك الأفعال لتأخذ طابعاً أكثر تنظيماً. وكما في السابق، تصرفت إسرائيل بلا رادع، مستهدفة الفلسطينيين بالقتل متى وأينما شاءت -خلال سبعينيات القرن الماضي في عمان وبيروت وتونس وباريس وروما؛ واليوم في الدوحة وطهران. وعلى جانبي الصراع، لا يرتجى إلا الأسوأ. ولن تفعل الولايات المتحدة شيئاً سوى الوقوف على أطلال الدمار.
خريطة الفشل
يمضي مسار السياسة الأميركية الفاشلة في الشرق الأوسط عبر مراحل متعاقبة، حيث تبدأ المرحلة الأولى بالمقاربة الخاطئة وسوء قراءة الأوضاع، مقرونة بأخطاء متعمدة أو غير مقصودة. ويتجسد ذلك مثلاً حين يصر المسؤولون الأميركيون على أن أفضل وسيلة للتأثير على إسرائيل ليست ممارسة الضغط عليها، وإنما من خلال سياسة الاحتضان والاحتواء. ثم تأتي المرحلة الثانية عندما يتدخلون بارتباك في الشأن الفلسطيني، محاولين فرض مجموعة من "القادة المعتدلين" -وهو دعم يراه جمهور هؤلاء القادة أقرب إلى إدانة منه إلى تأييد. أما المرحلة الثالثة فتظهر حين تستبعد من جهود السلام القوى الأقدر على تعطيله، أي تلك التي يحمل أتباعها، على الجانبين، ارتباطاً دينياً أو أيديولوجياً عميقاً بكل الأرض الممتدة بين النهر والبحر، ويعتبرون التنازل عن أي شبر منها تمزيقاً مؤلماً: وهؤلاء هم المستوطنون الإسرائيليون والقوميون الدينيون في مقابل اللاجئين الفلسطينيين والإسلاميين.
تكمن المفارقة في السياسة الأميركية في أن أصحاب القرار يعرفون كثيراً من الوقائع، لكنهم يفتقرون إلى الفهم الحقيقي. والمعلومات لا تعني الإدراك، بل قد تكون نقيضه. خلال العام 2000، أكد كبار مسؤولي الاستخبارات للرئيس بيل كلينتون أن ياسر عرفات لا يملك خياراً سوى قبول مقترحاته في قمة "كامب ديفيد"، وأن رفضه سيكون جنوناً. لكن عرفات رفض، واحتفى به شعبه بصفته بطلاً. وخلال العام 2006، غضت إدارة بوش الابن الطرف عن مؤشرات واضحة على فوز "حماس" في الانتخابات الفلسطينية التي دفعت واشنطن نحو إجرائها وأثارت قلق المسؤولين المحليين منها.
وبعد أعوام، ومع تفجر انتفاضة العام 2011 في سورية، صورت تقارير استخباراتية مبكرة المشهد على نحو مضلل، ورجحت أن الرئيس بشار الأسد لن يصمد لأكثر من فترة وجيزة، وأن الثوار في طريق سريع إلى النصر. وخلال إدارة بايدن، اعتمد المسؤولون الأميركيون على تقارير مشابهة لتقييم مواقف قادة إيران من الصفقة النووية، لكن معظم هذه التقديرات ثبت خطؤها. وقد فوجئوا بالانهيار الخاطف في أفغانستان وعودة "طالبان" إلى السلطة، وبهجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل، ثم بانهيار نظام الأسد في العام التالي -بل وفوجئوا بأنهم فوجئوا.
هذه المفاجآت لم تكن نتيجة تلاعب متعمد بالمعلومات لتلائم هوى الساسة، كما جرى في العام 2003 حين أخبرت وكالة الاستخبارات المركزية الرئيس جورج بوش الابن بما أراد سماعه عن امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، ووصفته بأنه "نجاح مؤكد". بل كانت ثمرة آلية أقل تعمداً وخداعاً، لكنها لم تكن أقل خطراً.
غالباً ما تأتي المعلومات الاستخباراتية مرفقة بتحذيرات واضحة، فيذكر المسؤولون أن ما بين أيديهم ربما استند إلى محادثة عابرة في مكان وزمان محددين، بلا تحليل أوسع أو سياق أشمل أو إدراك للافتراضات الضمنية. ويقال لهم إن هذه الشذرات ليست الصورة الكاملة، وإن امتلاك قطع من الأحجية قد يضلل أكثر من الجهل بها كلها. لكن هذه التحذيرات سرعان ما تتلاشى. فبالنسبة لمن لم يتعامل من قبل مع الاستخبارات الأولية -تفريغ مكالمة أو مذكرة سرية- يصعب وصف نشوة التجربة: شعور بأنك اخترقت غرفة الخصم وعقله، وأنك تملك أفضلية لا يمتلكها، ولن يمتلكها. تعتقد أنك تعرف. لكنك في الحقيقة لا تعرف. ويقرأ صناع السياسة الأميركيون وبالكاد يفهمون، ثم يقرؤون مزيداً فلا يزدادون إلا جهلاً.
ولا تكمن المعضلة الأساس في هذه الحالات وغيرها في مجرد خطأ الولايات المتحدة في التقدير. فأن يخطئ صناع السياسات، أو يسيئوا قراءة التفاعلات الخارجية، أو يسيئوا فهم الفاعلين المحليين، هو أمر غير نادر. بالنسبة لمعظم الساسة، يشكل ذلك جزءاً من طبيعة عملهم. لكن ما هو غير مألوف وصعب التفسير حقاً هو تكرار هذه الإخفاقات مراراً وتكراراً، وكيف أن تفشيها لم يؤد إلى أي مساءلة شخصية أو مؤسسية، ونادراً ما قوبلت حتى بتوبيخ طفيف، فضلاً عن مراجعة جادة. والأصعب أن الولايات المتحدة تبدو عاجزة عن استخلاص الدروس من أخطائها. وتكمن المسألة في سبب مقاومتها المستمرة لتغيير طرائقها. وفي مسار الفشل الأميركي، تأتي الخطوة التالية: تكرار الفشل.
ولعل ما هو أكثر إرباكاً من الأخطاء ذاتها، أو من المثابرة على تكرارها، هو عادة المسؤولين الأميركيين المتمثلة بترديد الأكاذيب، حتى بعدما يعلمون أنها زائفة، بل وحتى بعدما يدركون أن الآخرين يعرفون أنها زائفة. وهنا يكتمل المسار، وتصل السياسة الأميركية إلى مرحلتها الأخيرة: الكذب. والكذب يولد من رحم الفشل، ويزدهر مع تكراره. وينخرط صناع السياسة في خطوات يظنون أنها ستنجح، ثم يكررونها على الرغم من ثبوت فشلها، ويعلنون أنها ناجحة فيما الجميع يدرك العكس، ويعِدون بأنها ستنجح بينما فقد الناس صبرهم وثقتهم. ومع انفصال هذه الأقوال عن الواقع، تتحول إلى مجرد كلام احتفالي أجوف. الأمر أبعد من مجرد تلميع سياسي أو دوران في حلقة مفرغة. إنه يعكس نهجاً متعمداً، يكاد يكون استراتيجياً، يقوم على بث تفاؤل لا حدود له، يتعارض مع المنطق والخبرة اليومية. والمثير للانتباه والمحير في آن هو هذه الطريقة اللامبالية التي دأبت الولايات المتحدة من خلالها على إطلاق تصريحات متفائلة، تتعارض مع كل الأدلة القائمة، وتقف في تضاد صارخ مع سجلها البائس.
كيف يصبح الوهم كذبة
يقف الكذب في صميم السياسة والدبلوماسية، لكن الأكاذيب ليست كلها سواء. هناك كذبة يتم بها تبرير السعي إلى مصلحة عامة، كما فعل الرئيس جون ف. كينيدي عندما ضلل الرأي العام بشأن التفاهم السري بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حول سحب واشنطن صواريخها من تركيا مقابل إنهاء أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962. وهناك "الكذبة الكبرى"، الفاضحة والمكررة بلا توقف، التي تهدف إلى تحويل الجمهور إلى مؤمنين فاقدي الإرادة والتفكير. وهناك الكذبة الماكرة أو الساخرة، التي برع فيها هنري كيسنجر وانغمست فيها إدارة جورج دبليو بوش قبيل غزو العراق. هذه الكذبة قد تستخدم لتبرير حرب أو لتفاديها؛ لكسر جمود سياسي أو حتى لإزهاق الأرواح. وهناك كذبة اليائس الذي يسعى إلى بث أمل زائف، كما فعل الناطق باسم صدام حسين خلال حرب العراق في العام 2003 وهو يفاخر بالنصر وسط الخراب الشامل. وهناك كذبة الخاسر التي تمسك بها ياسر عرفات كمن يتشبث بطوق نجاة، فكان يقول لمصر إن سورية عدوته، ويقول لسورية إن مصر عدوته، ويؤكد للسعودية أن كلتيهما عدوته. ينفي معرفته بمقاتل كان أصدر له الأوامر لتوه، ويدعي معرفة رجل لم يره قط. وسرعان ما تعلم الجميع ألا يثقوا به. لكن تلك الأكاذيب أنقذته، ووضعت قضيته على الخريطة.
ثمة أكاذيب تسهم في إنجاز أمور، حتى لو كانت تلك الأمور قبيحة أو خسيسة أو عنيفة أو أكثر سوءاً من كل ذلك. لهذه الأكاذيب غاية، قد لا تكون سامية، لكنها غاية على أي حال. غير أن التلفيقات التي تغلغلت في الدبلوماسية الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط وأفسدتها لم تكن من هذا الصنف. لقد تميزت بعدم قدرتها على خداع أحد، وبأن من يطلقونها يعرفون يقيناً أن أحداً لا ينخدع بها. حصل ذلك عندما أعلنت إدارة أميركية مرة تلو أخرى إصرارها على تحقيق حل الدولتين، بعد أن صار واضحاً أن تحقيق هذا الهدف لم يعد ممكناً. وظهر حين أصرت إدارة بايدن على أنها تعطي لحياة الفلسطينيين والإسرائيليين الوزن نفسه، أو عندما زعمت أنها لا تدخر جهداً للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، أو حين أكدت أن عملية سلام بين السعودية وإسرائيل أصبحت جاهزة وقريبة المنال.
ولكن، هل هذه كلها مجرد أكاذيب؟ قد تبدو الكلمة قاسية. فالكثير من تلك التأكيدات لم يبدأ على هذا النحو، بل ولد من سوء فهم أو من وهم ذاتي. عشية قمة جنيف في العام 2000 بين كلينتون والرئيس السوري حافظ الأسد، كان جميع أعضاء الفريق الأميركي مقتنعين بأن الأسد سيرفض المقترح الإسرائيلي الذي طُلب منهم نقله إليه، وأبلغوا رئيس الوزراء الإسرائيلي بذلك فعلاً. ومع ذلك، لا بد أنهم أقنعوا أنفسهم بأن ثمة احتمالاً لنجاح ما، وإلا فلماذا ذهبوا أصلاً؟ وفي "كامب ديفيد" خلال العام نفسه، أقنع المشاركون أنفسهم بأن اتفاقاً بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك بات وشيكاً، مع أن شيئاً لم يكن قد حُسم بشأن تقسيم الأراضي أو وضع القدس أو مصير اللاجئين الفلسطينيين. وتكرر الأمر خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما، عندما قال وزير الخارجية آنذاك، جون كيري، الذي كان قد بدأ للتو انخراطه في المسار الدبلوماسي الإسرائيلي - الفلسطيني، إن الطرفين أصبحا أقرب إلى التوصل إلى اتفاق أكثر من أي وقت مضى. ومن المشكوك فيه أنه كان يتعمد التظاهر، بل كان، على غرار من سبقوه، مقتنعاً بأن بلوغ الاتفاق مسألة إرادة وتصميم، وهما أمران امتلك الكثير منهما. وحين تحدث مسؤولون في إدارة بايدن عن أن السعودية مستعدة لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، فإنهم كانوا على الأرجح يعنون ذلك فعلاً، استناداً إلى ما نقله إليهم ولي العهد في أحاديث خاصة.
مع مرور الوقت، بات من العسير تحديد الخط الفاصل بين الوهم الذاتي والتضليل المتعمد. ومع ترديد هذه المزاعم مراراً وتكراراً، يصبح هذا الفارق باهتاً، وربما عديم الأهمية. في النهاية يمتزج الأمران معاً. فالوهم الذي يتم ترديده بلا توقف، على الرغم من وضوح زيفه، يكف عن كونه وهماً ويغدو كذبة. والكذبة التي تعاد على نحو دائم تصبح مع الوقت طبيعة ثانية، راسخة وغريزية، تنفصل عن أصلها وتتحول إلى وهم ذاتي. لا شك أن المزاعم المتكررة للمسؤولين الأميركيين، على مدى عقود، عن التزامهم بحل الدولتين، وأن جولة جديدة من المفاوضات برعاية أميركية قادرة على تحقيقه، وُلدت في البداية من قناعة حقيقية. ولكن، مع الفشل المتكرر واستمرار ترديد الشعارات نفسها، لم يعد الأمر وهماً، بل أصبح خداعاً. وهذه من الظواهر التي لا تفهم إلا إذا عايشها المرء عن قرب. كانت لدى المسؤولين الأميركيين قناعة بفرصة النجاح عندما قصدوا جنيف و"كامب ديفيد"، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يعرفون أن مصير اللقاءين هو الفشل. وقد صدقوا مبادرة كيري، لكنهم أدركوا في الوقت نفسه أنها طوباوية. ووثقوا بأن اتفاق السلام السعودي - الإسرائيلي ممكن، لكنهم كانوا مستسلمين لحقيقة أنه في الوقت الحاضر مجرد حلم بعيد المنال. كانوا يعرفون ولا يعرفون في آن واحد، غير قادرين على التمييز بين الأمرين. وقد لخص جورج أورويل هذا التناقض في روايته الديستوبية "1984" حين كتب: "لقد مُحي الماضي، ونسي أمر المحو، فأصبحت الكذبة حقيقة. حتى حين تدحض الأدلة قناعة ما، يظل الإيمان بها قائماً".
حدود القوة
في إحدى مراحل تعاملها مع الشرق الأوسط، جعلت الولايات المتحدة من التفاؤل عقيدة دينية، وتبنت أيديولوجيا قائمة على الأماني، وأخذت تكرر كلمات جوفاء على نحو روتيني، وتطلق مزاعم سرعان ما تكذبها الوقائع. ومن الصعب تحديد لحظة بعينها لانطلاق هذا النهج، لكن ترسخه ارتبط على الأرجح مباشرة بتآكل القوة والنفوذ الأميركيين في المنطقة.
صحيح أنه ليست هناك قوة تضاهي الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأميركية، لكنّ عدداً متزايداً من الحلفاء والخصوم في الشرق الأوسط تعلموا تجاهل ذلك. فقد ووجهت واشنطن، بكل ما تملكه من جبروت، بالصد مراراً من إسرائيل -بل وأحياناً حتى من الفلسطينيين، ولم تفعل سوى أن تقف متفرجة على إذلالها. وإذا كانت القوة تعني توسيع حدود القدرة الموضوعية وتوجيه سلوك الآخرين، فإن ما أظهرته الولايات المتحدة كان النقيض تماماً. صحيح أن مأساة "عملية السلام" بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا تتحملها واشنطن وحدها، لكن من الصعب تخيل فجوة أوسع بين الإمكانات والنتائج مما كان في تلك العملية. لقد تحول من اعتاد ممارسة الإكراه إلى طرف مورست عليه الضغوط، ولم يحرك ساكناً.
وفي أماكن أخرى أيضاً، في العراق كما في أفغانستان، تبين أن الولايات المتحدة لا تعرف كيف تخوض حرباً، ناهيك عن كسبها. فقد قتل آلاف الأميركيين ومئات الآلاف من العراقيين والأفغان. وانتهت حرب العراق بتمكين حكومة وميليشيات مدعومة من إيران، فيما انتهت حرب أفغانستان بعودة "طالبان" إلى الحكم بعد انسحاب أميركي مذل.
كما أثبتت واشنطن عجزها عن إدارة السلام. في كل أنحاء المنطقة احتضنت الطغاة ثم وبختهم ثم عادت لتحتضنهم مرة أخرى. في ليبيا، أمر أوباما بشن ضربات عسكرية عجلت بسقوط معمر القذافي، لكن النتيجة كانت حرباً أهلية وفوضى وانتشاراً للميليشيات، وتدفقاً للسلاح عبر أفريقيا، وأفواجاً من اللاجئين إلى أوروبا. في ذلك الوقت، علق الرئيس الأميركي آمالاً على نجاح العملية، لكنه وصفها لاحقاً بأنها "مهزلة مقززة" -وكان محقاً في وصف واحد في الأقل. وعلى المنوال نفسه، قادت جهود إدارته في سورية إلى إطالة أمد الحرب الأهلية وتشجيع التدخل الإيراني والروسي، من دون أن تفضي إلى وصول المعارضة إلى السلطة. وكان الأسوأ أن جزءاً كبيراً من السلاح الذي أرسلته واشنطن إلى سورية وقع في أيدي جماعات جهادية اضطرت إلى محاربتها لاحقاً.
في هذه الحالات وغيرها، سلكت الانتفاضات العربية طريقاً مظلماً وقاسياً. عندما اندلعت، أعلن أوباما أن الولايات المتحدة تقف مع رياح التغيير، وأنها تقف "في الجانب الصحيح من التاريخ". لكن التاريخ لم يعر ذلك أي اهتمام. في كل مرة، اصطدم التفكير القائم على الأماني بالحقائق الصلبة، وبدت واشنطن وكأنها غافلة عن دروس تاريخها في المنطقة: دروس عن الإفراط في الثقة وحدود القوة الأميركية؛ عن متانة الأنظمة الحاكمة واستمرارها على الرغم من الأزمات؛ عن عبثية التعويل على شركاء محليين يسعون وراء حماية أميركا لكنهم يستخفون بنصائحها؛ عن التداعيات الارتدادية لدعم جماعات مسلحة تجهل واشنطن كثيراً عنها ولا تملك عليها أي سيطرة. وقد تكررت هذه الأخطاء كما لو كانت فراشة تجتذبها النار، في منطقة كثيراً ما تعهدت الولايات المتحدة بالخروج منها. دروس تتحدث، باختصار، عن زواج غريب بين اندفاع أميركا الذي لا يقاوم للتدخل في الشرق الأوسط وجهلها العميق بطرائق العمل فيه.
وحتى عندما تحققت بعض الأهداف التي لطالما سعت إليها، لم يكن ذلك بفضلها. لم تفلح أعوام من الجهود الأميركية لإضعاف الحركات المسلحة -"حزب الله" والميليشيات العراقية والفصائل الفلسطينية والحوثيين- في تقويض نفوذها. نعم، لقد أصيبت هذه الجماعات بضربات موجعة، لكنها سرعان ما استعادت قوتها وازدادت قوة بفعل الأزمات. أما الضربة الأشد تأثيراً فجاءت على يد إسرائيل خلال أيلول (سبتمبر) 2024، حين وجهت ضربة قاصمة لـ"حزب الله"، ففككت قيادته وشتتت صفوفه. وقبيل فرار الأسد من دمشق خلال كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه وانهيار نظامه، كانت واشنطن قد خلصت إلى أن كليهما -النظام و"حزب الله"- سيبقيان، وبدأت تفكر في صفقة لتحسين العلاقات معهما. لكن المفاجأة صدمت المسؤولين الأميركيين حين أطاحت جماعة مصنفة كإرهابية في قوائمهم بالأسد بسرعة، وأتمت المهمة التي عجزت الولايات المتحدة طويلاً عن تحقيقها. ولم يكن أمامها إلا أن تقف متفرجة، ثم تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع شخص انتقل في أيام معدودة من خانة "الجهادي" إلى مرتبة "رجل الدولة" في نظرها.
أميركا تعوض بالضجيج عما تخسره في النفوذ
بعد كل فشل، كانت تولد الأكاذيب التي أصبحت بمثابة العمود الفقري للدبلوماسية الأميركية داخل الشرق الأوسط. في أفغانستان، ظلت الولايات المتحدة تكرر أن النصر وشيك، لكنها استمرت في الدوران حول نفسها إلى أن انتهى بها المطاف إلى مواجهة الهزيمة. وفي وقت ادعت فيه أنها تخوض معركة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت تستند إلى شركاء يتجاهلون الأولى ويتحدون الثانية. وأصرت واشنطن على أن ضغوطها قادرة على كبح البرنامج النووي الإيراني. وعندما لم تنفع الضغوط، افترضت أن مزيداً منها سيؤتي ثماراً. لكن كل عقوبة جديدة فرضت رداً على تحد إيراني جديد، لم تكن سوى دليل إضافي على عبثية النهج، حيث لا يمكن القول بجدية إن الضغط يكبح سلوك إيران إذا كان تصعيد الضغط لا يؤدي إلا إلى سلوك أسوأ.
كان الأغرب من ذلك كله، أحياناً، أن يجتمع الادعاء الكاذب مع الاعتراف بأنه ادعاء. فعندما سلح أوباما فصائل المعارضة السورية، أعلن على الملأ: "هذا الديكتاتور سيسقط". لكنه عاد لاحقاً ليعترف بأن فكرة نجاح معارضة مؤلفة من "أطباء سابقين وفلاحين وصيادلة" في هزيمة جيش نظامي لم تكن سوى خيال. وخلال العام 2018، شجبت إدارة بايدن قرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما مع إيران وإعادة فرض العقوبات. لكنها، في الوقت ذاته، تباهت بأنها لم ترفع عقوبة واحدة، بل أضافت عقوبات جديدة، وتعهدت بمزيد من الضغط الذي أقرت بنفسها أنه لم يكن ذا جدوى. وعلى النهج نفسه، عندما بدأت القوات الأميركية في مهاجمة الحوثيين في اليمن رداً على هجماتهم ضد السفن التجارية، واصل المتحدثون العسكريون الأميركيون ترديد مزاعم عن النجاح. وعندها أطلق الرئيس جو بايدن عبارته المدهشة في حديث إلى صحفي عن الضربات التي أمر بها: "حين تسأل: هل تنجح؟ هل توقف الحوثيون؟ لا. هل ستستمر؟ نعم". كان الرؤساء الأميركيون بقدر كلماتهم، وكانت كلماتهم واضحة بقدر ما كانت مبهمة.
كلما تراجعت قدرة الولايات المتحدة على التحكم في مسار الأحداث، ازداد شعور مسؤوليها بحاجة ملحة إلى الحديث عنها، في محاولة لإظهار الشعور بالسيطرة. كانت واشنطن تعوض خسارتها في النفوذ بضجيج متزايد، تستر عجزها بكثرة الكلام، وتغطي عبثية سياساتها ببلاغة خطابها. أما القوة الحقيقية فهي صامتة. والهوة بين الأقوال والوقائع تكاد تستعصي على الفهم، إلا إذا عدت مؤشراً على نهاية حقبة. إنها تكشف عن حنين قوة عظمى كانت مطلقة الجبروت إلى زمن مضى كانت فيه تملي مسار الأحداث؛ وتفضح ثقل منظومة حوافز تعاقب التشاؤم لما يحمله من حكم سلبي على الأهداف الأميركية؛ وتكافئ التفاؤل لأنه يمنح صورة زائفة عن قدراتها، أو لأنه يغذي الأمل بأن التكرار القهري للتصريحات المبهجة قادر في النهاية على تحويل الخداع إلى حقيقة.
عودة إلى الواقع
يكفي النظر إلى الطريقة التي استقبل بها العالم العربي إعادة انتخاب ترامب في العام 2024 لتدرك الكثير. وفق معظم المعايير، كان من المفترض أن تقف كل الظروف ضده في هذا السياق. في ولايته الأولى، مال بكفة السياسة بصورة حاسمة نحو إسرائيل، متعمداً كسر الأعراف السائدة والتخلص من بديهيات عملية السلام التي وصفها بالخرافات. وخلال حملته الانتخابية، لم يتردد في دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى "إنهاء المهمة" في غزة. وأياً يكن ما تجرأ مسؤولو إدارة بايدن على التصريح به من إدانات أخلاقية لسلوك إسرائيل في تلك الحرب، فقد كان واضحاً أنه لا صدى لها عند من سيخلفونهم. ومع ذلك، سرعان ما ساد خلال الأيام الأولى، في أكثر من زاوية من الشرق الأوسط، شعور بالارتياح فاق مشاعر اليأس. ارتياح مرده ببساطة توديع نهج بايدن، بل وفي نظرهم أيضاً، نهج أوباما.
لا يكفي التفسير التقليدي بأن المستبد لا يرتاح إلا لمستبد مثله لتفسير الظاهرة. لم يكن بايدن قط مدافعاً حقيقياً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. لم يكن ما أثار استياء قادة المنطقة، ومعهم شريحة كبيرة من شعوبهم، لم يكن غياب الحزم بل الغطرسة الأخلاقية الأميركية، والعبارات الجوفاء عن التعاطف، والقناعات التي تفتقر إلى الجرأة على التطبيق. وما لم يطيقوه على الإطلاق كان الأكاذيب. إذا لم تكن واشنطن تنوي فعل شيء من أجل الفلسطينيين، فلتتحل على الأقل بقدر من اللياقة ولتتوقف عن التظاهر بالاهتمام. ومع ترامب، كانوا يظنون أنهم يعرفون ما ينتظرهم على الأقل، حتى وإن لم تعجبهم أفعاله المليئة بالمفاجآت غير المحسوبة. لقد رأوا فيه زعيماً بلا بوصلة أخلاقية، يمارس السلطة من دون مواربة أو خجل. وبخلاف أسلافه، لم يكثر الحديث عن حل الدولتين الخيالي، وكان جاداً حين قال إن كل الخيارات مطروحة بشأن إيران. وحين أذن بإجراء محادثات مع "حماس"، أسقط القناع المسرحي المتمثل في رفض التعامل مع الطرف الفلسطيني الوحيد القادر على اتخاذ قرار في الحرب والسلام. ويبقى ما إذا كان ذلك يمثل قطيعة حقيقية مع الماضي سؤالاً مفتوحاً. لكن، بعد أعوام من الغضب الزائف والوعظ الكاذب، بدا كثيرون مرحبين بما رأوه سخرية صريحة ومنعشة.
على مدى عقود، نسجت الولايات المتحدة كوناً موازياً من الأوهام. كوناً تتحقق فيه الوعود المنمقة وتثمر الأفعال النتائج المرجوة. كوناً تفضي فيه مهمة واشنطن في أفغانستان إلى ولادة ديمقراطية حديثة، وتتمكن فيه القوات الحكومية المدعومة أميركياً من الصمود في وجه "طالبان". كوناً تؤدي فيه العقوبات الاقتصادية إلى إحداث التغيير السياسي المنشود، وتخضع الحوثيين، وتوقف مسار التقدم النووي الإيراني. كوناً تخوض فيه الولايات المتحدة صراعاً حاسماً بين قوى ديمقراطية وأنظمة استبدادية، لتكون الغلبة فيه للديمقراطية. وفي هذا الكون الموازي أيضاً، يمثل "المعتدلون" الفلسطينيون شعبهم، ويصلحون السلطة الفلسطينية، ويكبحون مطالبها السياسية، بينما ينهض وسط إسرائيلي عقلاني، يستجيب لتحفيز واشنطن الناعم، فيوافق على انسحابات إقليمية حقيقية وعلى قيام دولة فلسطينية تستحق اسمها. وفي هذا الكون ذاته، يلوح وقف وشيك لإطلاق النار في غزة، وتتحقق العدالة الدولية من دون تحيز، ولا تلوث ازدواجية المعايير الأميركية الفجة النظام الدولي الذي تزعم الدفاع عنه.
ولكن، خلف هذا كله يقبع الكون الحقيقي، ماثلاً من لحم ودم... وأكاذيب.
*حسين آغا: انخرط في الشؤون الإسرائيلية - الفلسطينية ومفاوضاتها لأكثر من نصف قرن. شغل منصب زميل أول في كلية "سانت أنطوني" بجامعة "أوكسفورد" بين العامين 1996 و2023. روبرت مالي: يعمل محاضراً في كلية "جاكسون" للشؤون الدولية بجامعة "ييل". تولى مناصب رفيعة في ملفات الشرق الأوسط خلال إدارات الرؤساء كلينتون وأوباما وبايدن. هذا المقال مقتبس من كتابهما "الغد هو الأمس: حياة وموت وملاحقة السلام في إسرائيل - فلسطين" (دار "فرار، شتراوس وجيرو"، 2025). الترجمة لصحيفة "الإندبندنت" حيث نشرت في 19 أيلول (سبتمبر) 2025.