الغد
يواجه العراق الشقيق احتمال دخول فصل دموي آخر من الصراع الأهلي/ الطائفي بسبب تعدد الولاءات والتنافس على السلطة. والصراع هذه المرة شيعي-شيعي بعد أن كان عنوانه طويلاً شيعي-سني. ولا أحد يزعم أن العراق كان قبل الاحتلال الأميركي في العام 2003 بلداً مثالياً. ولكن، مهما كان الوضع أيام حكم البعث وصدام حسين، فإنه كان بلا شك جنة حقيقية مقارنة بما يحصل في البلد الشقيق منذ الإطاحة بذلك النظام بتدخل عسكري أميركي.
جاءت الفوضى العارمة التي يعيشها العراق لأكثر من عقدين الآن نتيجة لما يُسمى في السياسة الخارجية الأميركية «تغيير النظام». والأهداف المعلنة للتدخلات الأميركية، العسكرية والمخابراتية، المعلنة والسرية، هي جلب الحرية والديمقراطية لشعب البلد المستهدف. لكن الهدف المرير المغلف بعسل الخطاب عن الحرية هو، ببساطة، ضمان الهيمنة الأميركية –وإحباط أي قوة معارِضة لهذه الهيمنة، أو، قد تهدد أمن الكيان الصهيوني عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط.
ثمة تاريخ طويل للتدخلات الأميركية، بدءا من القرن التاسع عشر في أميركا اللاتينية وجنوب غرب المحيط الهادئ. وفي بدايات القرن العشرين، تتحدث الأدبيات عن تشكيل الولايات المتحدة أو تنصيبها حكومات في عدد من بلدان العالم. ومنها بنما، والهندوراس، ونيكاراغوا، والمكسيك، وهاييتي، والدومينيكان. كما أسقطت الولايات المتحدة الأنظمة في ألمانيا واليابان، والفلبين، وكوريا، وشرق الصين وجزء من أوروبا.
بعد الحرب العالمية الثانية، شملت عمليات ومحاولات تغيير النظام التي أشرفت عليها الولايات المتحدة تدبير الانقلاب الإيراني في العام 1953، وغزو خليج الخنازير في كوبا في العام 1961، ودعم سوهارتو للإطاحة بسوكارنو في إندونيسا في العام 1967. يضاف إلى ذلك التدخل في انتخابات الدول لإنجاح أنظمة تابعة في عشرات الدول.
بالنسبة لمنطقتنا، شهدنا مباشرة في العقود الأخيرة تداعيات التدخلات الأميركية المباشرة لـ»تغيير النظام» في كل من أفغانستان، والعراق، وليبيا وسورية. وما تزال كل هذه الدول تقريبا تعاني الويلات بعد أن دُمرت مقدراتها وعششت فيها الفوضى والصراعات الأهلية الطاحنة. وكانت ذرائع التدخل فيها متشابهة، طويت جميعاً تحت عنوان «الحرية». وتحت هذا العنوان، ثمة «محاربة الإرهاب»، و»الأمن القومي الأميركي»، و»منع انتشار أسلحة الدمار الشامل».
مع ذلك، ما يزال المنتقدون للتدخلات الأميركية يشيرون إلى «الفشل في تحقيق الاستقرار والديمقراطية» في الدول المستهدفة بالتدخل. وفي المقابل، يقدّر الكثير من المتأثرين بهذه العمليات أن «المهمة أنجزت»، بكلمات الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. والمهمة، كما يبدو بوضوح، هي تدمير الدول المعنية وإرجاعها قروناً إلى الوراء، شعوبها قبل قادتها. وسوف نسمع في العراق وليبيا، مثلاً، كثيرين يتحسرون على أيام الزعماء الذين أطيح بهم ولم يأت من ذهابهم أي خير. أما حيث فشل تغيير النظام، فقد دفع الناس أثماناً باهظة في الأرواح والمقدرات والأمن والحاضر والمستقبل.
بطبيعة الحال، ليس الغزو المباشر هو الوسيلة الوحيدة لتطبيق سياسة «تغيير النظام». ثمة حرب دائمة تُشن على حريات الشعوب، بتجويعها وفرض العقوبات عليها وحصارها وتأجيج صراعاتها الداخلية، مثلما يحدث مع إيران ولبنان واليمن. وهناك التدخل العسكري والسياسي، العلني والسري الأطول أمدا والأكثر شراسة ضد وجود الشعب الفلسطيني. ومن المعروف أن الأسلحة التي يُقتل بها الفلسطينيون ويُطهرون بها عرقيا تأتي من أميركا، المزود الرئيسي لجيش الاحتلال والمنفق الأكبر على الكيان.
بالنسبة لنا نحن العرب: «أميركا على الأسوار تهدي كل طفـل لعبة للموت عنقودية/… نعسنا، أيقظتنا الطائرات وصوت أميركا/ (و) نفـتح علبة السردين تقصفها المدافـع/ نحتمي بستارة الشباك تهتز البناية تقفز الأبواب/ أميركا وراء الباب، أميركا وراء الباب». (مديح الظل العالي، محمود درويش).
إذا لم تحضر الولايات المتحدة بـ»الأحذية العسكرية على الأرض»، فإنها تحضر بالتدخل في السياسات العربية بضمان وجود أنظمة حكم موالية لها –وليس لتفعيل نسخ من «المثل الأميركية» عن الحرية والديمقراطية. الحرية والديمقراطية تعني التخلص من الهيمنة الداخلية والخارجية وتحرير الطاقات والموارد والإنسان. ولن يقبل إنسان حر بالاختناق تحت ركبة قوة أجنبية فوقية واستغلالية. ولذلك لن تريد الولايات المتحدة، ولاأي قوة إمبريالية، بوجود أناس أحرار. ذلك، ببساطة، ضد مصالحها المعرفة بمعادلة «المصلحة = الهيمنة».
مع ذلك، ثمة بيننا الذين يشترون التدخلات (والوساطات) الأميركية أملاً في خير، باعتبار أنه «أكثر من القرد ما سخط الله». لكن قردا عن قرد يفرق. ثمة القرود التي ترقص بالأغلال في رقابها على إيقاع الدفوف وتحت السياط، فرجة للمتسلين. هكذا يغيرون النظام!