الراي
منذ الإسكندر المقدوني، وأوروبا دائما تعيد تشكل العالم، تغيب مرحلة أو اكثر ثم تعود لتتسيد العالم، ولكنها هذه المرة ومنذ الحرب العالمية الثانية تواصل الغياب والتراجع، حتى غدت ظل نحيل تابع لسيد العالم أمريكا، وبالرغم أن أمريكا تاريخيا مستمرة أوروبية، والأنجلوسكسون هم حكام هذا العالم الجديد، إلا أن هذه الزعامة الأمريكية التي عززتها المخاوف الأوروبية من الجيش الأحمر - الإتحاد السوفييتي - لن تتحقق إلا بسحب البساط من تحت أقدام أوروبا وتحولها إلى تابع مطيع، وأصبح حلف شمال الأطلسي أداة هيمنة أمريكية أكثر من كونه درع حماية أوروبية.
هذه المرة سياسة ترامب المباشرة والفجة، كشفت الضعف الاوروبي، وأرتهانه للقرار الأمريكي، وما زاد في وهن القارة العجوز جيل من الرؤساء الأوروبيين الضعفاء، الساعين إلى قمع أو تهميش اليمين الأوروبي ووصمه بالتطرف، في حين أن بريطانيا التي تعد الأب الشرعي لأوروبا والتي حكمت نصف العالم أو اكثر في الحقبة الكونيالية، حكامها اليوم ينظرون إلى رؤوساء أمريكا كحماة وسادة، خاصة وهي تعيش شبه عزلة بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي، بمعاهدة لم تكن في صالحها بكل الأحوال.
لقد وصلت الحرب الروسية الأوكرانية تعرية واقع الحال الأوروبي، فلو تحلت أوروبا بعقل وازن ومستقل عن التبعية الأمريكية لما قامت الحرب، ولما تم الزج بأوكرانيا ومن خلفها أوروبا بحرب لن تنتصر فيها، عندما تم دفع أوكرانيا للتعنت، فها هي أوكرانيا تخسر 20 % من أراضيها ويقضم المزيد ببطئ، وأوروبا تستنزف ماليا وتسليحيا، وتكبدها العقوبات على روسيا خسائر سنوية باهظة.
إلى أين تتجه أوروبا؟ السياق يقول إلى مزيد من الضعف والانكماش، وأن الإتحاد الأوروبي يفقد زخمه وتأثيره، وأن مشاكل اقتصادية كبرى ستضرب عجلة التنمية الأوروبية وسيرفع نسب البطالة بشكل يهدد السلم الأهلي في القارة العجوز، وهذا سيمنح أمريكا مكانة اقتصادية أكبر وهيمنة أوسع على القرار الأوروبي، وسيشجع ذلك كثير من القوميات الأوروبية على الإنفصال والمطالبة بالاستقلال، وربما نشهد سايكس- بيكو أوروبية في العقد القادم إذا استمر تردي الحال، وهذا سيعطي روسيا مزيدا من مناطق النفوذ والقوة الاقتصادية والعسكرية التي قد تعيد العالم إلى زمن القطبين، وفي كل الأحوال ومهما كان شكل هذه التحولات فإن أوروبا هي الخاسر الأكبر.