الغد-عزيزة علي
كتاب "زياد أبو لبن على حافة الضوء"، ليس تمجيدا، ولا سيرة شخصية تقليدية، بل هو محاولة للاقتراب من صورة مركّبة، متعددة الأبعاد، لكاتب وفاعل ثقافي ظلّ واقفا على حافة الضوء، يطل على العالم من زاوية مختلفة، ويكتب من موقعٍ نادر: موقع من يرى، ويفكر، ويختار الصمت حين يعجز الضجيج عن قول شيء ذي قيمة.
ويعد هذا الكتاب الذي صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع، وقام بإعداده وتقديم له الكاتب سمير اليوسف، محاولة لقراءة ملامح مشروع ثقافي اتسع للنقد، والسرد، والحوار، والتعليم، وجمع بين الحضور العام والعزلة المنتجة. هو شهادة وقراءة، بعض وفاءٍ لرجل آمن بالكلمة، وترك أثرا لا يُرى بسهولة، لكنه لا يُمحى.
"زياد أبو لبن على حافة الضوء"، الذي جاء ضمن سلسلة "بعض وفاء"، ليس مجرد عنوان، بل توصيف دقيق لمكانه في المشهد الثقافي: قريب بما يكفي ليُرى، عميق بما يكفي ليُقرأ، ومتفرّد بما يكفي ليظلّ حاضرا، ولو بصمت.
في كلمة له، يقول سمير اليوسف: "كل كتابة عن مبدع هي غرس شجرة في حديقة الزمن، تورق حين يذبل كثيرون. من خلال هذه السلسلة (بعض وفاء)، نغرس أسماءهم في تربة الذاكرة الثقافية، لتمنح الأجيال شجرة للظل والمعنى".
وفي مقدمة الكتاب، يقول اليوسف: "على الحافة التي تؤدي إلى الضوء" ليس مجرد عنوان، ولا "على حافة الضوء" محض استعارة شعرية تُغري بالقراءة، بل هو مدخل تأويلي عميق إلى عالم زياد أبو لبن، الكاتب والناقد والقاص والأكاديمي الأردني، الذي اختار أن يتموضع، طيلة تجربته، في تلك المسافة القلقة بين الضياء والظل، بين مركز الضوء وضفافه.
فالضوء هنا ليس اكتمالا، بل هو سؤال مفتوح، والحافة ليست نهاية، بل تخومٌ مرنة يقف عندها من يريد أن يرى الأشياء من زوايا لا تراها العيون المعتادة. ولذلك يبدو زياد أبو لبن كاتبا لا يكتب من قلب الضجيج، بل من الهامش النبيل، من منطقة "الرؤية"، حيث ينمو النص على مهل، ويُصاغ الموقف بعين المسؤول لا بعين الرائج.
وحين نستدعي هذا العنوان إلى واجهة هذا الكتاب، فإننا لا نستعيره من لغة الشعر فقط، بل نستلهمه من طبيعة التجربة نفسها، التي اختار صاحبها أن يحيا في حوار دائم مع الفكرة، مع الجمال، مع الوطن، ومع أسئلته الخاصة والعامة.
ويضيف اليوسف: زياد أبو لبن هو المثقف الذي لا تغريه الأضواء البراقة، بل ذلك الضوء الداخلي، الخافت أحيانا، لكنه اليقيني، الذي يرشد خطاه في العتمات. فمنذ انطلاقة تجربته الأدبية وحتى يومنا هذا، لم تكن الكتابة عنده ترفا أو سلعة، بل بحثا دائما عن المعنى، وإقامة أخلاقية في فضاء الإبداع.
وُلد زياد محمود أبو لبن في عين السلطان بمدينة أريحا عام 1962، ونشأ في بيئة فلسطينية زاخرة بالقيم والانتماء. انتقل لاحقا إلى الأردن، حيث أسس لنفسه موقعا بارزا في المشهد الثقافي الأردني والعربي، وتدرج في التعليم الأكاديمي بدءا من جامعة اليرموك، وصولا إلى معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، حيث أنجز رسالة الماجستير حول "المونولوج الداخلي عند نجيب محفوظ"، وهو موضوع مهّد لبداياته النقدية المبكرة.
ثم حصل على شهادة الدكتوراة في النقد الحديث من الجامعة الأردنية عام 2013، ومنذ ذلك الحين انطلق في مشوار معرفي متنوع، جمع فيه بين الإبداع والنقد، بين الكتابة والحوار، وبين التعليم والعمل الثقافي المؤسساتي.
عمل أبو لبن في سلك التعليم، كما شغل مواقع مختلفة في وزارة الثقافة الأردنية، منها رئاسة قسم الدراسات والنشر. وقد تولّى رئاسة رابطة الكُتّاب الأردنيين بين عامي 2015 و2017، وكان عضوا فاعلا في اتحاد الكُتّاب العرب، وأتيليه القاهرة، ونادي الرواد الثقافي، وشارك في تحرير مجلة "أوراق".
ولم ينقطع عن التعليم الجامعي منذ عام 1999، حيث حاضر في الجامعة الأردنية، وجامعة فيلادلفيا، وجامعة الزيتونة، وجامعة البتراء، والجامعة العربية المفتوحة، وغيرها.
ويرى سمير اليوسف أن هذا الامتداد الزمني والعملي لم يكن مجرّد مسار وظيفي، بل كان مصحوبا بمشروع ثقافي واضح، يقوم على الإيمان بفاعلية الكلمة، وضرورة حضور المثقف في صميم التحوّلات الثقافية والاجتماعية.
كتب زياد أبو لبن في النقد الأدبي برؤية متعمقة، تتجلى في كتبه: "المونولوج الداخلي عند نجيب محفوظ"، "اللسان المبلوع"، "رؤية النص ودلالته"، "في قضايا النقد والأدب"، "رؤى تقديرية في الشعر"، وغيرها من المؤلفات التي شكّلت إسهاما نوعيا في حقل النقد العربي.
كما كتب القصة القصيرة بنفس التأمل العميق؛ لا يلاحق الحدث، بل يكشف الداخل الإنساني ويستخرج المعنى من التفاصيل الصغيرة، ويتجلى هذا النهج في مجموعاته القصصية مثل: "هذيان ميت"، "أبي والشيخ"، "ذات صباح".
ولأن ثقافته لم تكن انعزالية، خاض أبو لبن مجال الحوار الثقافي، وأجرى مقابلات مع عشرات الأدباء العرب، جمعها في كتب منها: "حوارات مع أدباء من الأردن وفلسطين"، "حوارات من الداخل"، مُقدّما بذلك أرشيفا حيا للتجارب الأدبية العربية، وموثّقا لحظات التأمل الذاتي لدى الشعراء والروائيين الذين التقاهم.
وكان له أيضا إسهامات بارزة في أدب الطفل، وفي إعداد مختارات شعرية لأسماء عربية لامعة مثل نزار قباني، ومظفّر النوّاب، وأحمد مطر. كما عمل على جمع وتحقيق تراث عدد من الأدباء الأردنيين المنسيين، مثل خليل زقطان، ونديم الملاح، وعبد الفتاح الكواملة.
يرى اليوسف أن هذا التنوع في الإنتاج، يقابله تنوع في الدور؛ فأبو لبن ليس مجرد كاتب، بل "فاعل ثقافي" بامتياز، يؤمن بالمؤسسة كما يؤمن بالفرد، ويجمع بين العمل المكتبي والكتابة الحرة، بين التدريس والتأليف، وبين الحضور في الفعاليات الثقافية، والمكوث في عزلته ليكتب.
وهذه الصورة الكاملة، أو هذا "البورتريه المركّب"، هو ما يسعى هذا الكتاب إلى تقديمه، من خلال مجموعة من المقالات والشهادات والقراءات التي تسبر عوالمه النقدية والإبداعية والفكرية.
يقول سمير اليوسف إنه قسّم الكتاب إلى مجموعة من الفصول التي تتناول أعمال زياد أبو لبن بالتحليل أو العرض أو الشهادة، وتكشف عن أبعاد مختلفة من تجربته. ففي بعض النصوص، نراه ناقدا يعيد تفكيك النصوص الكبرى بعيون ناقدٍ مدرّب، وفي بعضها الآخر قاصا يكتب بأسلوبٍ مشحون بالحساسية والمفارقة، وفي نصوص ثالثة يبدو المحاور المستمع، أو المحقق الجامع، أو الباحث الصبور عن التفاصيل المطمورة.
ويُبين أن الأهم من كل ذلك، هو أن هذا الكتاب لا يتعامل مع أبو لبن بوصفه كاتبا مُنجزا فحسب، بل بوصفه واحدا من أولئك الذين أسهموا، بوعي ومثابرة، في تشكيل ذائقة جيل، وصياغة خطاب ثقافي لا يُساوِم، ويضع الكلمة في موقعها الطبيعي: أداة للوعي، وجسرا للحرية، وصوتا للإنسان.
ويأتي هذا العمل استكمالا لما انتهجته سلسلة "بعض وفاء" في احتفائها بالمبدعين وتوثيق منجزهم، مواصلة خطّها الذي بدأته في كتبها السابقة: "رؤيا النقد والإبداع: قراءات في أعمال عبد الله رضوان"، "إبراهيم العجلوني: مرايا الحضور"، "العجلوني وآفاق المعرفة والانتماء"، "الصعود إلى النص: أضواء على خطاب إبراهيم تحليل النقدي – الجزء الأول"، "الصعود إلى النص: حول المنجز النقدي لإبراهيم خليل – الجزء الثاني".
ويُشكّل هذا الإصدار لبنة جديدة في صرح الذاكرة الثقافية الأردنية والعربية، واستمرارا وفيّا لمسعى التوثيق النقدي الهادف، وشيئا من الوفاء لأولئك الذين منحونا من إبداعهم ما يستحق أن يُقرأ ويُخلَّد. فهذه السلسلة ليست تمجيدا للأشخاص بقدر ما هي محاولة لإنصافهم، ولإبقاء ذاكرتهم حيّة في الوجدان الجمعي، من خلال قراءة أعمالهم وتقديمهم للأجيال القادمة.
وإذا كانت سلسلة "بعض وفاء" تسعى إلى تقديم صورة بانورامية للمبدعين الأردنيين والعرب، فإن زياد أبو لبن، بحضوره الخافت اللامع، وبمنجزه المتنوع، كان ممن يستحقون هذا الوقوف والتوثيق. لافتا إلى أن كتاب "على حافة الضوء" ليس فقط عنوانا لكتاب عن زياد أبو لبن، بل هو توصيف دقيق لمكانه الرمزي: كاتبٌ ظلّ على مقربة من النور، دون أن يبهت في وهجه، ودون أن يخاف من الظلال.