عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Jan-2020

التعليلة.. موروث أصيل أفسدته الحداثة

الراي - محمد قديسات - جسدت «التعليلة» معاني الالفة والخير والمحبة والتكافل فيما كان ينبثق عنها من مواقف وقرارات تعزز قيم اصيلة سادت مجتمعنا حتى وقت ليس ببعيد حتى دخلت الحداثة بمكوناتها وافسدت ما بقي من هذا الموروث الاصيل الذي شكل دوائر شورى وبرلمانات مصغرة تناقش القضايا وتضع الحلول لمشكلات الناس وهمومهم من خلال منظومة التكافل والتعاضد وعنوانها النخوة والعونة وغيرها من مفردات الزمن الجميل.

"فالتعليلة" وان بدت ظاهريا عنوانا للسمر وقضاء الوقت وتبادل الاحاديث الا ان مضامينها ومخرجاتها
ومقاصدها ومراميها ابعد من ذلك فهي انتجت حلولا لكثير من قضايا المجتمع والناس في حدود العشيرة او الحي وعلى مستوى القرية او البلدة احيانا وكانت تمرينا يوميا وحيا لمعنى الحوار والنقاش وتبادل الاراء ومنبرا ديموقراطيا يتناصح فيه السمار ويتفقون على رأي يمثل الاغلبية دون الحاجة الى اجراء انتخابات وما يرافقها من تبعات فمثلت منبرا دستوريا بامتياز يلتزم بقراراته الجميع.
هذه الروحية التي عبرت بنا زمنا جميلا بسلاسة ودون تعقيد اخذتها الحداثة على حين غرة وعقدت وافسدت مضامينها وافرغتها من محتوياتها تحت مسميات عديدة لم تعكس سوى واقعا صعبا ومريرا اصبح فيه البعض يتحسر على تلك الايام رغم قساوة ظروفها الا انها ما تزال مرتبطة بمعاني وقيم البركة والخير والمحبة يوم كان يغاث فيه الملهوف وينتخي فيه الجميع عند صاحب الحاجة فكل يقدم ما في استطاعته ليس ماديا فحسب وانما كانت «العونة» بمفهومها الواسع نتاج ذلك الزمن حيث يهب من انهى موسم الحصاد او موسم القطاف الى مساعدة جاره الذي ما زال منهكما في عمله ولم ينتهي بعد من عمله في الحقل او في المزرعة.
تلك الصورة الجميلة النقية تتعدد زواياها وابعادها فمن هو مقدم على زواج يكون هدفا لتقديم العون
والمساعدة والوقوف الى جانبه فنسوة الحي يتحملن مسؤولية اعداد الجهاز والفرش وغيرها من احتياجات بيت الزوجية الجديد رغم بساطتها فيما الرجال والشباب يهبون للتحضير للعرس والتعليلة التي كانت تستمر لاسبوع تكون مناسبة لالتقاء جميع اهل القرية والقرى المجاورة معبرين عن فرحهم ومشاركتهم بما تجود به انفسهم من ماشية وارز وسكر واحتياجات الوليمة حديثا "القرى" بتسكين اللام والقاف.
ويظهر التحسر على ما فات من ايام الخير والبركة عندما يقودك الحظ اوالصدفة ان تلتقي مع من عايشوا هذا الزمن الجميل وشاركوا فيه وهم يصفون العديد من الاحداث التي كانت تحل في التعليلة كالزواج وحل المشكلات بين الجيران ناهيك عن تدارس امر الموسم وما يصلح للزراعة فيه وغيرها من الامور التي تشكل محور الاعتماد على الذات من الانتاج وهو ما نفتقده اليوم واصبحنا بامس الحاجة اليه ولم يعد امامنا طريقا سواه لنعود الى ماضينا والى ارضنا الطيبة لنعيد دوران عجلة الانتاج والاعتماد على الذات.
ويسجل لمجموعة من المبادرين لاعادة احياء هذا الموروث الغني بالقيم والاصالة باقامة تعليلة ولو مرة واحدة اسبوعيا في احد الدواوين يلتقي فيها الشيوخ وكبار السن يعرضون تجاربهم وخبراتهم ومفرداتهم الخاصة بما يصفوه بزمن الخير والبركة امام الشباب بدافع غرس قيم ومعاني الاخاء والمحبة والتسامح والعطاء والنخوة بين صفوفهم وربط حاضرهم بماضيهم.
ويقول احد رواد الفكرة «موسى النعواشي» لاننا من جيل تربى على القيم الايجابية ننظر من حولنا فنرى الجانب المظلم في مجتمع يئن فزاد ارتباطنا بماض جميل رغم قساوته وشدة الامه فشدنا الشوق لعادات مجتمعية تحرسها النوايا الطيبة ويجمعها الوفاء ويظللها الدفء تفاصيلها مليئة بالفرح يتحولق فيها الجميع حول «البنورة» والموقدة لانهنا بلقمة عنها غائب وتلك المضافات التي يؤمها الرجال ليحلوا بفنجان القهوة مشاكل نهارهم.
ويستذكر النعواشي وعدد من الشيوخ وكبار السن في تعليلة شتوية بضيافة الحاج عبدالكريم العبابنة «ابو ايمن» في بلدة سال تلك العادات الجميلة في الافراح والاتراح وحتى حفلات الطهور ومعاونة الاقارب والجيران في الحصاد وقطف الزيتون والفرح الحقيقي الذي يعمر صدور اهل القرية كما هو الحزن في حال فقدان عزيز عليهم او مصيبة حلت باحدهم.
ويروي الحاج العبابنة فصلا من حكايات غلفت ذلك الزمن من تناقل وتبادل لصحون الطعام في رمضان مرورا بالعونة في المواسم وصولا الى حالة من التكافل والتعاضد في كل شيء حتى في تقاسم رغيف الخبز خصوصا في ايام "اللزبات" وهي استمرار هطول المطر الغزيز لاكثر من ثلاثة او اربعة ايام متواصلة "والجورعة" اي الانتهاء من الحصاد والقطاف ليتفرغ بعد ذلك من انهى عمله بمد يد العون لمن تأخر في انجاز هذا العمل.
ويقول الحاج ابو ايمن العبابنة ان قساوة الظروف ومرارتها وانعدام وسائط النقل وغيرها مما نعيشه اليوم كان اجمل وانقى فالنسوة يقطعن مسافة تزيد احيانا عن عشرة كيلو مترات لاحضار الماء من العين باوعية تسمى «السطل» في الوقت الذي كان فيه موسم الحصاد يستمر لشهور عديدة نتيجة عدم وجود الالات الحديثة التي اختزلت الزمن لكنها في ذات الوقت اختزلت معها العديد من القيم التي تربينا عليها.
ويعود النعواشي ليقول ان الهدف من احياء هذا الموروث هو نشرالوعي بطريقة جاذبة بالجمع بين كبار السن ممن عايشوا الزمن الجميل وبين الشباب لصياغة اجواء تراثية تنثر الحكمة والموعظة في مقارنة بين ماض قاس لكنه يقطر وفاء وبين حاضر بامكاناته غير انه متوتر على امل غرس مفاهيم وقيم للجيل الجديد مرتكزة على قيم الاصالة والفضيلة ومغلفة بالوفاء وحب الخير للناس نطرحها من خلال الاغاني الشعبية التي تحمل مفردات راقية ونقارنها بما يقال اليوم.
ويضيف النعواشي ان الفكرة انطلقت قبل سنتين من منطقة ام قيس شمال الاردن بتعليلة شتوية في
البيوت العتيقة في المنطقة الاثرية ثم بدأنا بعدها ننتقل للقرى والبلدات وشاركه بها كرئيس لملتقى ام قيس الثقافي رئيس جمعية بيادرالخير للحفاظ على التراث محمد سليمان الزعبي وعدد من المهتمين بالموروث الشعبي والثقافي من افراد ومؤسسات مجتمع مدني في بلورتها لواقع معاش يتنقل بين الدواوين والمضافات.
وكانت مفردات الزمن الجميل حاضرة في التعليلة التي استضافها الحاج ابو ايمن العبابنة من خلال ما طرحه المؤرخ ابراهيم الزعبي من فصول في هذه المفردات ومعانيها ودلالالتها تغطي جانبا من جوانب الحياة العامة كالزراعة والفلاحة والمطر والعونة والجورعة وحتى تلك المفردات الخاصة باللباس في تلك الفترة والاهازيج الخاصة بالحصاد والقطاف والفرح والطهور والحناء لعروس وسهرة العرس وغيرها فشكلت "التعليلة " مناخا خصبا لتبادل الافكار والاراء ومقاربات ومقارنات بين الاصالة والمعاصرة.