عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Nov-2025

الأزمة التي تُعيد تعريفنا*فراس النعسان

 الدستور

لم يعد العالم ينام على أزمة ويستيقظ على أخرى، بل صار يعيش في قلبها كما يعيش الكائن في بيئته الطبيعية. فالأزمات لم تعد استثناءً من سياق الحياة، بل أصبحت جزءًا من نسيجها اليومي؛ هي الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نحاول النجاة فيه. ومن هنا، لم يعد الفارق بين الأمم في عدد ما تواجهه من أزمات، بل في كيفية إدارتها لها. فالأمم التي تُحسن الإدارة تجعل من الأزمة درسًا، أما التي تعجز عنها، فإنها تُسلِّم مصيرها إليها، فتتحول الأزمات من امتحانٍ عابر إلى قدرٍ دائم.
 
إدارة الأزمة ليست مسألة تقنية أو إجرائية، بل مسألة وعي. إنها القدرة على الإمساك بخيوط الزمن حين تتشابك، والقدرة على النظر إلى النيران من دون أن نحترق. حين يغيب الوعي، تُصبح الأزمة سيداً يُملي أوامره، ويُعيد تعريفنا وفق منطق الخوف لا وفق منطق الفهم. وحينها، لا نعود نمتلك زمام المبادرة، بل نتحول إلى ردّ فعلٍ دائم، يتنفس الهلع ويعيش على حافة الانتظار.
 
إن الأمم التي تُدير أزماتها تعرف أن الانفجار لا يحدث من فراغ، وأن كل كارثةٍ تحمل في جوفها بذرة نظام جديد. فالإدارة الحقيقية تبدأ من الفهم لا من الفزع، ومن تسمية الأشياء بأسمائها لا من التهرب من مواجهتها. أما الأمم التي تديرها الأزمات، فهي تلك التي اعتادت أن تُخدّر خوفها بالتصريحات، وأن تستبدل الفعل بالتبرير، وأن تتقن الصمت حين يكون الكلام هو الخلاص.
 
في السياسة كما في الحياة، الزمن هو أول ضحايا الأزمات. حين تدير الأزمة، تكون أنت من يملك الزمن، تُبطئه أو تُسرّعه كما تشاء. أما حين تُدار بك الأزمة، تُصبح أسير اللحظة، تركض خلف الأحداث بدلاً من أن تسبقها، وتتحول الحكمة إلى ترفٍ، والعقل إلى جهاز إنذار لا يتوقف عن الصراخ. ولهذا لم يكن صدفة أن الدول التي تجيد الانتظار هي الأكثر قدرة على الصمود، لأن الانتظار، في زمن الارتباك، شكل من أشكال الذكاء.
 
الأزمة، كما يقول الفلاسفة، هي مرآة الوعي. تُعرّي ما نُخفيه، وتختبر تماسكنا الداخلي. والكارثة الحقيقية ليست في وقوعها، بل في عجزنا عن التفكير حين تقع. فهايدغر كان محقاً حين قال إن الخطر الأكبر ليس الخطأ، بل التوقف عن التفكير. وحين تتوقف الأمم عن التفكير، تبدأ بالانقراض البطيء تحت ركام ضجيجها.
 
إدارة الأزمات ليست علماً فحسب، بل فلسفة وجود. أن تدير الأزمة يعني أن تُعيد امتلاك المعنى، وأن تُبقي رأسك فوق الماء في عالمٍ يفيض بالفوضى. أما أن تُدار بك الأزمة، فذلك أن تفقد توازنك، وأن تُصبح مستسلماً للتيار الذي يصنع مصيرك نيابة عنك. إدارة الأزمة هي سؤال عن الإرادة: من يدير من؟ الإنسان أم الحدث؟ الوعي أم الفوضى؟
 
وحين تُحسن الأمم إدارة أزماتها، فإنها لا تتجاوز الخطر فحسب، بل تُعيد اكتشاف ذاتها. فالأزمة قد تكون لحظة سقوط، لكنها أيضاً لحظة ولادة. إن الشعوب التي تواجه أزماتها بشجاعة، لا تحتاج إلى معجزات، بل إلى وعي يُنقذها من الهلع، وإلى قيادة تفهم أن الإنكار يُؤجل الكارثة ولا يمنعها.
 
الفرق بين من يدير الأزمة ومن تسيّره الأزمة، هو كالفرق بين من يعزف على آلة موسيقية ومن تُعزف عليه. فالأول يخلق نغماً جديداً، والآخر مجرد صدى للضوضاء. لذلك، فإن إدارة الأزمات ليست ترفاً فكرياً، بل مسألة مصير، لأن الأمم لا تُقاس بعدد جوائزها في الرخاء، بل بعدد الدروس التي تتعلمها في العاصفة.
 
وحين نصل إلى تلك المرحلة التي نُدير فيها الأزمة بدلاً من أن تديرنا، نكون قد انتصرنا على الخوف، وأعدنا للزمن توازنه، وللفكر سلطته، وللإنسان مكانته. عندها فقط، يمكننا القول إننا تجاوزنا الأزمة لا لأننا خرجنا منها، بل لأننا خرجنا منها أكثر وعياً وصلابة وقدرة على الفعل. فالأزمة، في نهاية المطاف، ليست عدواً ينبغي الهرب منه، بل معلّمٌ قاسٍ، لا ينجو منه إلا من تعلم كيف يُدير نفسه قبل أن يُدير غيره.